الأستاذ الشيخ: جودت سعيد
لما كنت في مصر للدراسة، كان لنا صديق كفيف، وحين كنا نمر بجوار محل حداد يستخدم لحام الأوكسجين، كان يقول: “إيه اللي يزغلل في عيني؟” فكأنه لم يكن فاقداً البصر نهائيًا، فهذا الضوء الشديد كان يؤثر قليلاً على عينيه. وأنا أيضاً حين أبحث بعض المواضيع أشعر وكأن شيئاً يزغلل في عيني.. وأنني مثل الكائنات التي تستكشف محيطها بواسطة قرون الاستشعار.
بعض الفلاسفة الغربيين بدأوا يلمحون أيضاً لقيمة الفكر النبوي بمثل هذه القرون وبمثل تلك الزغللة في العيون، ذلك الفكر القائم على الإحسان والإيثار والصبر على الأذى، رغم أنه يتعارض بشكل جذري مع الثقافة الغربية بل مع ثقافات العالم جميعاً. وبالرغم من تنوييهم بقيمته إلا أنهم يصفونه بأنه فكر محكوم عليه بالفشل، بل يرون أن أصحابه ذهبوا ضحية أفكارهم حيث قُتل ابن آدم، وشرب سقراط السم.. والمسيح وغاندي.. وآخرون.
لكنهم لا ينتبهون إلى أن البذرة التي بذرها الأنبياء واعتنى بها المصلحون، بدأت تنمو وأن التاريخ يعتني بها، لقد بدأ العلم يتلمس بقرون الاستشعار أيضاً قيمة الفكر النبوي، وأن الجهاز العصبي قادر على الفهم والتسخير وأنه قابل للإصلاح حتى لو أخطأ، وأن لا داعي لكسره ولا سفك دمه.
إن الحاجة إلى استخدام قرون الاستشعار تنبع جزئيًا من القيود التي نفرضها على العقول من خلال الضوابط الاجتماعية التي تمنع التفكير وتضع حدودًا لما يمكن التفكير فيه، وما لا يمكن التفكير فيه وما هو مستحيل التفكير فيه.
والسؤال الذي يمكن طرحه: كيف يمكن أن نساعد الإنسان على الحياة، بحيث يتمكن من التفكير بواسطة دماغه، كما يهضم الطعام بمعدته وكما يتنفس الهواء برئته؟
يمكن أن يتنفس الإنسان بمفرده، لكن الغذاء مختلف، ولا بد له من مرحلة تمتد إلى سنة أو سنتين، يتغذى فيها من ثدي أمه، قبل أن يتعلم تناول الغذاء مباشرة. ولكن ما قصة الدماغ؟ كيف نهيئه لتقبل غذاء الأفكار؟! كيف نستطيع أن نخرجه من عالم الآباء؟!
إن فطام الإنسان مشكلة إنسانية، فالطفل لا يفطم عن ثدي أمه حتى يشتد جسده، لكن الطفل الذي يستمر في الاعتماد على ثدي أمه وهو بعمر أكبر يصبح أمراً غير مقبول وغير طبيعي وغير صحي. كذلك فكر الإنسان لا يفطم فكرياً حتى تصير لديه معلومات صحيحة.. لكن استمراره في الاعتماد على فكر الآباء أمر غير مقبول ولا طبيعي ولا صحي.
الطفل يأتي إلى العالم مليئاً بالأسئلة.. يريد أن يفهم العالم ويسأل عن كل شيء.. كيف جاء إلى هذا العالم؛ بأي المراحل مرَّ؟ وما المسالك التي قطعها حتى جاء إلى الوجود؟ إنه يغرقنا بالأسئلة، وربما نعرض عنه أو نكذب عليه، دون أن تكون لدينا القدرة على مصارحته. يكون الطفل مملوءًا بملكة التعلم لكنه يفقد هذا الحماس رويدًا رويدًا. كذلك البشرية؛ كان صعباً عليها استكشاف أصل وجودها في هذا الكون.. بل إن بعض الناس يهربون من التساؤل عن أصلهم، وإذا تساءلوا فإننا لا نملك القدرة على مصارحتهم ومواجهتهم.
لقد كان الناس فيما مضى لا يعلمون عن خلقهم ونموهم شيئاً يُذكر، لقد كانوا معذورين في تصورهم أن الحياة ثابتة جامدة، لكن العصر الذي نعيش أرانا من آيات الله في الآفاق وفي الأنفس، لنجدد نظرتنا للمشكلات وأسبابها وحلولها.
إن مشكلاتنا كثيرة جداً.. وظني أن من أكبر مشكلاتنا تجميد حركة الحياة، وزرع هذا الجمود في عقول الأفراد بحيث يسود شعور عام بأن لا يوجد خيارات ولا حلول أخرى غير التي ورثناها عن آبائنا.. لا بد من بحث هذا الموضوع بكثير من الجدية والتعمق، وسنتابعه بالبحث في مقال الأسبوع القادم إن شاء الله.
وقف السليمانية/ مركز بحوث الدين والفطرة
الموقع: حبل الله www.hablullah.com
أضف تعليقا