الإنسان حامل الأمانة
الأستاذ الشيخ: جودت سعيد
في هذا المقال أود أن أذكركم [وذكِّر فإنَّ الذِّكرى تنفعُ المؤمنين] (الذاريات، 55)، أريد أن أذكركم بآية من كتاب الله، هذا الكتاب الذي فيه نبأ ما قبلنا وخبر ما بعدنا وحكم ما بيننا.
الآية: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان، إنه كان ظلوماً جهولاً) [الأحزاب، 72].
في الآية يذكر الله شيئاً مهماً في حياة الإنسان: إنه “الأمانة“. الله تعالى عرض هذه السلعة الغالية الرفيعة على الجبال والسماوات والأرض، فأبت أن تحملها، وخافت منها، ومن ثقلها.. ومن احتمال التفريط فيها. ولكن مَن الذي حملها؟ إنه الإنسان. “الإنسان” وليس المسلم أو المؤمن أو المسيحي أو البوذي… بل الإنسان دون أي تمييز أو تخصيص.
هذا الإنسان.. هذا الخلق الآخر الذي ظهر فيه إبداع أحسن الخالقين. هذا الذي نفخ الله فيه من روحه.. هذا الإنسان المبدع المبتكر يمكن أن يرتد إلى أسفل السافلين ويتردى إلى ما دون الأنعام فيكون ظلوماً جهولاً. وما بين هاتين الإمكانيتين نجد التاريخ البشري يتحرك ما بين الفجور أو التقوى، ما بين التدسية أو التزكية.. نحو أحسن تقويم أو أسفل سافلين.
نعم يمكن لنا أن ننظر إلى الإنسان من زاويتين؛ حين يتراجع عن قدراته يكون ظلوماً جهولاً، ويمكن أن يكون في أحسن تقويم بحيث يستحق أن تسجد له الملائكة. متى يكون ظلوماً جهولاً؟ عندما لا يحمل الأمانة بحقها أو حين يفرط فيها أو يضيعها.
لهذا قال عليه الصلاة والسلام، (إذا ضُيعت الأمانة فانتظر الساعة)[1]. وقال: (لا إيمان لمن لا أمانة له)[2].
هذه السلعة النفيسة الغالية عرضها الله على السماوات والجبال فامتنعت. الشمس لا تستطيع أن تتأخر عن الشروق. ولا القمر عن الاكتمال والانمحاق، ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون.
لا يمكن أن ترسل بقرة في بستان وتقول لها لا تأكلي من هذه الشجرة!! وإذا أكلتْ.. فإنك لا تسألها لماذا فعلت هذا؟؟ ولا تحاسبها! بل نحاسب الإنسان الذي أدخلها، أو تركها دون مراقبة في مكان كهذا.
هذه المسخرات لا قدرة لهم على أن يخرجوا قيد أنملة عن الطريق المرسوم. ولا يتأخرون ثانية واحدة.. ولكن الأمانة شيء تستطيع أن تضيعه أو أن تصونه.
اعرفوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أميناً قبل أن يكون رسولاً. ألا تحفظون هذا من سيرة الرسول؟! ورغم أنه كان في عداء مع قريش في دينها، ولكن كان القرشيون يأمنون محمداً وأصحابه، ولم يكونوا يخافون أن يأتي منهم شر أو خيانة. وكانوا يثقون به مع أنه يخالفهم في الدين.
لقد فرض عليهم الثقة، وفرض عليهم الأمانة من طرف واحد.
والرسول يقول: [والله لا يؤمن.. والله لا يؤمن.. والله لا يؤمن.. قالوا: خاب وخسر.. من يا رسول الله؟؟ قال من لا يأمن جاره بوائقه][3].
البوائق.. تعني الشرور.. المنكرات.. الأذية.. الإساءة..عدم حفظ الجيرة.
لما جارك لا يثق بك.. لا يأمن شرورك؛ لا يكون عندك إيمان…
إن من يحمل الأمانة تضطر أن تثق به ولو كان لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر.
إذا كان لك جار لا يؤذيك ولا يضرك، ويحفظ مالك وعرضك ودمك؛ فإنه يستطيع أن يستولي على قلبك رغماً عنك. ولما يكون لك جار، مؤمن حاج مصلي وصائم.. ولكنه يضيع جيرتك؛ فإنك لا تستطيع أن تثق به.
إذا كان هناك أسلحة خارقة للدروع، فإن الأمانة سلاح خارق للقلوب والعقول. كل الناس مضطرون أن يحترموا حامل الأمانة. ارجعوا إلى قلوبكم وفتشوا فيها. لمَّا تكون صادقاً يشعر الناس بأنك مؤمن، والإيمان من الأمن، والإسلام من السلم، المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده.. الإسلام والإيمان من الأمانة والثقة..
أنتم تقرؤون القرآن وتعرفون كيف عصى إبليس أمر الله حين أمره بالسجود لآدم. وتعرفون كيف عصى آدم الله وأكل من الشجرة وفشل في حمل الأمانة. الله تعالى واجه كلاً منهما بمعصيته، لم يكن جواب آدم وزوجه: يا رب.. هذا الشيطان الرجيم أغواني..!!
مع أن القرآن يقص أن إبليس جاء إلى آدم وقال له: (هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى؟؟)[طه،120]، لقد خدعه بالخلد.. لأن الموت هو أكثر ما يفزع الإنسان.
ومع ذلك فإن آدم وزوجه لم يُلقيا اللوم على إبليس ولم يَذكرا دوره في المسألة نهائياً، وإنما قالا: (ربنا ظلمنا أنفسنا)[الأعراف، 23].. لقد أخطأنا.
لكن لما قال الله لإبليس: لماذا لم تسجد إذ أمرتك؟ لم يقل: أنا أخطأت!! بل صار يدافع عن نفسه، وقال: (أنا خير منه) [الأعراف،12]، هذا لا يستحق أن أسجد له، وافتخر بعنصره وبأصله مثلما يفتخر بعضنا بقوميته أو عرقه. قال: (خلقتني من نار) [الأعراف،12] كيف أسجد لهذا الحقير الذي هو من طين؟
العجيب أننا نعيش ونتصرف في الحياة على مذهب إبليس كلما وقعنا في خطأ، فننزّه أنفسنا ونلقي التبعة واللوم على الآخرين، بمن فيهم الله تعالى، ونقول: هكذا قدَّر الله!
آدم وزوجه تابا فوراً فغفر لهما ربهما. ليس عيباً أن يخطئ الإنسان، ولكن العيب أن يستمر في الخطأ، أن يفشل في حفظ الأمانة ثم يصر على إضاعتها، وإلقاء اللوم على الآخرين نوع من إضاعة الأمانة.
ولأننا ضيعنا الأمانة وصلنا إلى ما وصلنا إليه. العالم الإسلامي لا يأمن بعضه بعضاً، وكلما صار عند أحدهم شيء من القوة والقدرة يخاف جاره الضعيف أنه سيهجم عليه، فيصبح مستعداً للاستعانة حتى بالشيطان لينقذ نفسه، نحن نعيش شريعة الغاب لا شريعة رب الأرباب، لأننا ضيعنا الأمانة.
علينا أن نجدد إيماننا بحيث يثق بعضنا في بعض، ونتذكر أن محمداً وأصحابه كانوا محل ثقة من قريش أكثر من ثقتهم بأبنائهم وأتباعهم، واليوم إن لم نستعد الأمانة والصدق، وما لم يصر الآخرون يثقون بنا أكثر من ثقتهم بإخوانهم، وأكثر من ثقتهم بحرسهم الخاص، لا نكون مؤمنين.
اللهم اجعلنا من المؤمنين الأمينين الذين سيعطون الأمان للعالم جميعاً، وابعث لنا [علماء] يُفهِّموننا دينَنا من جديد. اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلا، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] أخرجه البخاري (59) و (6496) ، وابن حبان (104) ، والبغوي (4232)
[2] رواه أحمد في المسند (12383) وابن أبي شيبة 11/11، وعبد بن حميد (1198) ، وأبو يعلى (2863) ، والبزار (100- كشف الأستار)
[3] مسند أحمد (7878)
مقالة رائعة