يؤمن النَّاس بأنَّ المرأة خُلقت من ضلعٍ أعوج بناء على رواية نُسبت إلى نبيِّنا عليه الصَّلاة والسَّلام، وهذا هو نصُّ الرِّواية:
“واستَوْصُوا بالنَّساء فإنَّ المرأة خُلقت من ضلع، وإنَّ أعوج شيء في الضِّلع أعلاه؛ إنْ ذهبْتَ تُقيمه كسرته، وإنْ تركته لم يزل أعوج. استوصوا بالنِّساء خيرا”[1]
وكما في كثير من المواضيع فقد ذهبت الآيات ضحيَّة تغليب الرِّواية التي يُنظر إليها بمعزل عن الآيات، بل وجعلها مقدِّمة لفهمها، ممَّا خلق تصوُّرا بأنَّ القرآن يصدِّق هذا الزَّعم المنسوب إلى نبيِّنا.
إذا سألت علماء التَّفسير ما معنى الحكمة فإنَّهم يكرِّرون ما ذكره الشَّافعي من معناها؛ “الحكمة هي السنة”[2] وإنْ سألتهم كيف علَّم الله تعالى نبيَّه الخاتم _بصفته رسولا_ الكتاب والحكمة كما رود في الآيتين 164 من سورة آل عمران والثانية من سورة الجمعة، فلن يكون لديهم أيُّ إجابة على هذا التَّساؤل. ولأنَّ كلَّ الآيات ذات الصِّلة باتت مبهمة في تصوِّرهم، فإنَّ غالبيَّة المفسِّرين باتوا بعيدين عن معرفة الحكمة، ولأنَّ التَّحقق من أعمال المفسِّرين الأوائل بات محظورا فقد تربَّى اللاحقون على منهج الحفظ والتَّسليم[3]. فباتت الأخطاء تتناقل عبر الأجيال وتكتسب قدسيَّة كلـمَّا تقادم عليها الزَّمان.
الحكمة هي منهج إصدار الأحكام الصَّحيحة من القرآن وانتاج الحلول المناسبة[4]، وهاتان الآيتان تلخَّصان هذا المنهج:
{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ. أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِير} (هود 11/1-2)
عندما نتناول موضوعنا بحسب منهج الحكمة يظهر بأنَّ الدَّليل الذي سيق على ادعاء خلق حواء من الضَّلع الأعوج مخالفٌ للآية التَّالية:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء} (النساء 4/1)
تُفسَّر هذه الآية بحسب المنهج التَّقليديّ بما يلي:
“أجمع المسلمون على أنَّ المراد بالنَّفس الواحدة هاهنا هو آدم عليه السَّلام، إلا أنَّه أنَّث الوصف على لفظ النَّفس، وأنَّ هذا الزوج هو حواء، وفي كون حواء مخلوقة من آدم قولان:
الأول: وهو الذي عليه الأكثرون أنَّه لـمَّا خلق الله آدم ألقى عليه النوم، ثم خلق حواء من ضلع من أضلاعه اليسرى، فلـمَّا استيقظ رآها ومال إليها وألفها، لأنَّها كانت مخلوقة من جزء من أجزائه، واحتجوا عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: « «المرأة كالضلع، إن أقمتها كسرتها، وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج»[5]
والقول الثَّاني: وهو اختيار أبي مسلم الأصفهانيّ: إنَّ المراد من قوله: وخلق منها زوجها أي من جنسها، وهو كقوله تعالى: والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا [النحل: 72] وكقوله: إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم [آل عمران: 164] وقوله: لقد جاءكم رسول من أنفسكم [التوبة: 128]. انتهى[6]
ورأي أبي مسلم الأصفهانيّ هو الصَّواب؛ لأنَّه اتَّبع منهج الحكمة في تفسيره الآية بالآيات المشابهة فتوصَّل إلى النَّتيجة الصَّحيحة، فقد خُلقت حواء من الـمَّادة التي خُلق منها آدم عليهما السَّلام.
وبحسب الآيتين 1-2 من سورة هود فإنَّ الله تعالى هو صاحب الحقِّ في تفسير كتابه، لذا كوَّن لتفسيره علـمَّا خاصا احتواه كتابُه[7]، ولا يمكن الوصول إلى ذلك التفسير إلا بذلك العلم[8]، فمن يحاول تفسير كتاب الله دون الاستعانة بذلك العلم فقد وضع نفسه مكان الله تعالى.
ولنرى التَّضارب الحاصل في أراء المفسِّرين_ باستثاء أبي مسلم الخراسانيّ_ لنقرأ الآية مرة أخرى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء} (النساء 4/1)
وضمير المخاطب في (خلقكم) يعود على آدم عليه السَّلام بالرُّغم من أنَّ الخطاب موجَّه لجميع النَّاس، وهو من باب الالتفات، حيث يمكن استخدام صيغة الجمع بدلاً من المفرد بُغْيَة الحفاظ على السَّرد حيَّاً والتَّأكيد على أهميَّة الموضوع.
التَّفاسير التي تقبل كون حواء خُلقت من آدم ليس مستغربا أن تقبل أنَّ كلَّ النَّاس خلقوا منه أيضا، وعلى هذا لا يبقى عندهم معنى لقوله تعالى {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء}، لأنَّه إنَّ كان النَّاس كلهم خلقوا من آدم، فمَن هؤلاء الرِّجال والنِّساء الذين خلقوا من كليهما؟.
كما سيُرى فإنَّ النَّفس التي خُلق منها آدم وحواء هي البويضة الملقَّحة.
الآية التي تُظهر أنَّ آدم قد خُلق قبل حواء هي:
{خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (الزُّمر 39/6)
ويشير حرف العطف (ثُمَّ) الذي يفيد التَّرتيب مع التَّراخي الزَّمني أنَّ حوَّاء وآدم اللَّذين خُلقا من ذات البويضة الملقَّحة لم يكونا توأمَيْن.
في الخلق الأول جاء آدم وحواء إلى هذه الدُّنيا بجسدين بالغين، فلم يمرُّا بمرحلة الطُّفولة، وهكذا سيقوم النَّاس كلُّهم من قبورهم يوم البعث، يقول الله تعالى:
{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} (طه 20/55)
{قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ …. كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (الأعراف 7/25 و 29)
وتتحدَّث الآيات التَّالية عن الإحياء من جديد:
{وَاللَّهُ أنبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا. ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} (بوح 71/17-18)
{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ، كَمَا بَدَأنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ، وَعْدًا عَلَيْنَا إنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} (الأنَّبياء 21/104)
{وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أنزلنَا عَلَيْهَا الـمَّاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأنبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ. ذَلِكَ بِأنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأنَّه يُحْيِ الْمَوْتَى وَأنَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَأنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (الحج 22/5-7)
ما ورد أعلاه هو جزء من مقالة أ.د عبد العزيز بايندر (البشر والإنسان في القرآن) المنشورة على الرابط التالي https://www.hablullah.com/?p=3404
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] صحيح مسلم، باب الوصية بالنساء، رقم الحديث: 60 – ( 1468 )
[2] إذا أردت معرفة كم كان خطأ الشافعي فادحا في تعريفه الحكمة فانظر إلى مقالتنا (مفهوم الحكمة عند الإمام الشافعي) على الرابط التالي http://www.hablullah.com/?p=1900
[3] سأل أحدُ الطلبة شيخَ الإسلام أبا السعود أفندي (982هـ) هل جميع ما وردنا من أقوال نبينا صحيح ويجب العمل بها ؟ فأجاب: سائل هذا السؤال يعد كافرا لأنَّ مثل هذا السؤال لا ينبغي طرحه، وإذا لم يتب فسوف يقتل، ولكون هذا الأسلوب في الطرح يقلل من شأن حديث النبي فأن السائل يُعد زنديقا، وحكمه القتل حتى إذا تاب. (ابن عابدين المجلد 4 ص. 235-236 ، اسطنبول 1984.). والحقُّ أنه في مثل هذه البيئة لا يمكن تنشئة العلـماء.
[4] للاطلاع على ملخص في منهج الحكمة انظر مقالة (الحكمة في القرآن وطريقة الوصول إليها) على الرباط التالي http://www.hablullah.com/?p=2691
[5] صحيح البخاري، برقم 5184
[6] فخر الدين الرازي، مفاتح الغيب، تفسير الآية الأولى من سورة النساء، 9/478
[7] وفي ذلك يقول الله تعالى { وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف 7/52)
[8] انظر مقالتنا (الأصول في تفسير القرآن بالقرآن) على هذا الرابط http://www.hablullah.com/?p=1228