السؤال: يواجه العالم هذه الأيام أزمة فيروس كورونا، وتصدر الحكومات قرارات متتالية للتَّصدي لهذا الوباء، كفرضها العزل لمناطق محدَّدة أو أمرها بالحجر المنزلي للمشتبه بهم في الإصابة بالوباء، وأحيانا يُطلب من جميع السُّكان عدم الخروج من منازلهم إلا للضَّرورة. والسُّؤال هل يجب علينا كمواطنين الالتزام بالتَّعليمات الصادرة عن الجهات المختصَّة، أمْ أنَّ ذلك متعارضٌ مع مبدأ التَّوكل، وأنَّه لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا؟ أليس هذا الوباء قدرا من الله تعالى؟ أرجو التَّوضيح وجزاكم الله خيرا.
الجواب: التَّوكل على الله تعالى في مكافحة الوباء، يعني الأخذ بالأسباب اللازمة لمواجهته، ويتمثَّل ذلك بالعمل بالمقادير التي تدفع مقادير الوباء. ذلك أنَّ الوباء يقع وفقا لمقادير معيَّنة، وكذلك دفعه يكمن بمقادير أخرى تحيِّده أو تقضي عليه. هكذا ينبغي فهم موضوع القدر كما فهمه نبيُّنا الكريم وأصحابُه.
لـمَّا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه متوجَّها إلى الشَّام سمع أنَّ الطاعون قد ضرب النَّاس فيها، فقرَّر الرُّجوع إلى المدينة. فقال أبو عبيدة بن الجراح: أفرارا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة – وكان عمر يكره خلافه – نعم، نفرُّ من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كانت لك إبلٌ فهبطت واديا له عُدوتان، إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟، قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف، وكان متغيِّبا في بعض حاجته، فقال: إنَّ عندي من هذا علما، سمعت رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتم به بأرض، فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارا منه» قال: فحمد اللهَ عمرُ بن الخطاب ثم انصرف”[1].
وقد كانت ردَّة فعل عليٍّ رضي الله عنه على الأخطاء المتعلِّقة بموضوع الإيمان بالقدر قويَّة عندما ناظرَه أحدُ أهل الشَّام، حيث قال له:
“ويحك يا أخا أهل الشام! لعلك ظننت قضاءً لازماً وقدراً حتماً ، لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد، والاَمر من الله عز وجل والنهي منه ، وما كان المحسن أولى بثواب الاِحسان من المسيء ، ولا المسيء أولى بعقوبة المذنب من المحسن ، تلك مقالة عبدة الاَوثان وحزب الشيطان وخصماء الرحمن وشهداء الزور وقدرية هذه الاُمّة ومجوسها، إن الله أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلَّف يسيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يُطع مكرهاً، ولم يُعصَ مغلوباً، ولم يكلف عسيراً، ولم يرسل الأنبياء لعباً، ولم ينزل الكتب على العباد عبثا، ً(( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا باطِلاً، ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ))[2].
بناء على ذلك لا يصحُّ للمسلم أن يقف مكتوف الأيدي أمام المخاطر متذرِّعا بأنَّه متوكلٌ على الله تعالى، فهذا ليس من التوَّكل في شيء، بل هو التَّهرب من المسؤوليَّة التي أناطها الله تعالى بالإنسان.
إنَّ الحكومات التي تصدر القرارات اللازمة للتَّصدي للوباء تعتمد على توصيات الخبراء في هذا الشَّأن، وقد أمرنا الله تعالى بأنْ نسأل أهل العلم عمَّا لا نعلمه، وهو مفهوم قوله تعالى:
{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النحل 43، الأنبياء 7)
ثمَّ أمرنا بطاعة أولي الأمر إنْ كان ما أمروا به موافقا للحقِّ، بقوله تعالى:
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (النساء 59)
ومن الملاحظ أنَّ الأمر بطاعة أولي الأمر جاء معطوفا على الأمر بطاعة الله والرَّسول، ويُفهم من هذا العطف أنَّ طاعتهم لا تكون مطلقة، بل بما يوافق الحقُّ. والحقُّ يُعلم من مصدرين اثنين:
الأول: كتاب الله المخلوق، ويشملُ كلَّ ما خلق الله تعالى. والقوانين التي تحكم حركة المخلوقات وتفاعلاتها جزء من هذا الكتاب، حيث يتمُّ التَّعرُّف على تلك القوانين بملاحظة الظَّواهر ودراسة ماهيَّة الأشياء وما تصلح به أو تفسد.
الثاني: كتاب الله المنزل، المتمثِّل بآخرها نزولا والمصدِّق لجميع ما أنزل الله من الكتاب والمهيمن عليها جميعا.
وبحسب علمنا فإنَّ الإجراءات المتَّخذَة في مواجهة الوباء مفيدةٌ في الحدِّ من انتشاره والسَّيطرة عليه، لذا علينا جميعا أن نلتزم بتلك الإجراءات بقدر استطاعتنا، مع ابتهالنا إلى الله تعالى أن يُعجِّل برفع هذا البلاء، إنَّه سميع مجيب.
ملاحظة: هناك أخطاء كثيرة في الفهم التَّقليدي لمسألة القدر، وللوقوف على تلك الأخطاء وتفنيدها بأدلَّة القرآن وفهم النَّبي وأصحابه ننصح بقراءة مقالة أ.د عبد العزيز بايندر (معركة بدر والقدر) على هذا الرابط https://www.hablullah.com/?p=5206
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] صحيح مسلم 32_ باب الطاعون والطيره والكهانة، برقم 98_ (2219)
[2] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1/ 76 (مكتوبات الشيعة الشاملة)