السؤال: عاهدت الله على ترك ذنب ودعوت الله تعالى إن أخلفت العهد أن يدخلني النار ويخلدني فيها، وحافظت على العهد فترة ثم أخلفته، وبعدها عاهدت الله مرة أخرى وقلت إذا أخلفت العهد فلا تقبل يا ربي توبتي ثم أخلفت، ووصل عدد العهود 15، فماذا أفعل لكي يتوب الله عليَّ؟، أنا أريد التوبة ولكن قلبي أصبح قاسيا ولم أعد أشعر بالنَّدم حتى أحس أنه قد خُتم على قلبي، فماذا أفعل؟
الجواب: تكرار الذنب لا يعني بالضرورة قسوة القلب، ولا يدل على عدم قبول التوبة، بل يدلُّ على ضعف النفس البشرية وانسياقها وراء شهواتها ورغباتها، قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ، ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ (آل عمران 14)
وسؤالك هذا وشعورك بالذنب لدليل على أن قلبك ما زال حيًا يرجو رحمة ربه ويخاف عذابه، ولم يتحول إلى قلب ميِّت يرتكب المعاصي دون وجل، وقد أقسم الله تعالى بتلك النفوس التي تلوم صاحبَها عندما يرتكب المعاصي في قوله تعالى: ﴿وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾ (القيامة 2)
والنفس اللوامة توجّه صاحبها نحو رضوان الله تعالى لتكون بعدئذ نفسا مطمئنة.
أما عن دعائك على نفسك بعدم قبول توبتك أو بخلودك في النار فيجب أن تمتنع عنه، فقد علمنا أرحم الراحمين كيف يتوب الإنسان من ذنبه حتى ولو تكرر، وماذا يقول:
﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا، رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا، رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ، وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا، أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ (البقرة286)
وعلمنا كيفية التوبة بقوله سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ، وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ (آل عمران 135)
﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (فصّلت 36)
فالآيات هنا تعلمنا كيفية الخلاص من الذنوب وذلك بالاستعاذة بالله من الوسوسة، وبالاستغفار النابع من القلب، وبعدم الإصرار على الذنب.
وعدم الإصرار على الذنب ليس بالأمر الهين، فهو يحتاج إلى بذل الجهد ومجاهدة النفس، وقد وعد الله تعالى بهداية من يجاهد نفسه، ووعدُه الحق، فقَالَ جَلَّ وعَلَا: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا، وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (العنكبوت 69)
وقد أعطانا الله سبحانه السبيل إلى مجاهدة النفس في قوله سُبْحَانَهُ: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ، وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ (البقرة 45)
فالصلاة والذكر لهما كبير الأثر في تهذيب الشهوات بجعلها منحصرة فيما أحلَّ الله دونما حرَّم، فهما بمثابة الحصن الذي يحمي العبد من الوقوع في كثير من المعاصي. وكذلك فإن للصدقة أثرها في تكفير الذنوب، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ:
﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ، وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ، وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ (البقرة 271)
وكذلك الإكثار من الأعمال الصالحة وخاصة بعد ارتكاب الذنوب لها أثرها كما قَالَ اللَّهُ تَعَالَىٰ:
﴿وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ﴾ (الرعد22)
ولا ينبغي للعبد أن يقنط من رحمة ربه، فرحمته وسعت كل شيء، قَالَ اللَّهُ تعالى:
﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ (الزمر 53)
وبالنسبة للعهد الذي تأخذه على نفسك ثم تنكثه، فإن كان مترافقا مع القسم بالله على عدم العودة إلى الذنب، فيُعد ذلك بمثابة الرجوع عن القسم الذي جعل الله تعالى له كفارة.
وقد جاء تفصيل كفارة اليمين في سورة المائدة بقوله تعالى:
﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ، فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ، وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ، كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (المائدة، 89).
الكفارة بحسب الآية إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة. فإن لم يجد فإنه يصوم ثلاثة أيام.
وهو مخير بين الثلاثة الأولى أي (الإطعام أو الكسوة أو الإعتاق). وهذه الخيارات الثلاثة تمثل الترتيب الأول، فإن عجز الحانث بيمينه عن أحدهما يلجأ إلى (الصوم) كما هو مقتضى الآية.