السؤال:
دائما نقول أن الله تعالى لم يفرض علينا لباسا معيناً، وأن أي لباس يستر العورات جائز، ولكن أليس هذا غير صحيح في حق النساء؟ ففي القرآن آية تحدد أنَّ على النساء إدناء الجلابيب، حيث الأمر ليس كما في إخفاء الزينة بالخمار ونحوه، فمعلوم الغرض من الخمار. أما الجلباب فلم يذكر الله الغرض منه تحديدا واضحا سوى قوله “ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين”. التفاسير ترشد جميعها في اتجاه أن الجلباب كان لدفع الأذى بتمييز الحرائر عن الإماء قبل تحريم البغاء، فحين حرم، لم يعد هناك سبب لمراودة الإماء ولن يجد أحد عذرا في ذلك. ولكن ذلك لم يرد فيه نص من القرآن أو السنة. ولكن ورد حديث عن أم عطية أنه قد لا يكون لبعض النساء جلباب لتخرج به، فقال النبي أنه عليهن استعارة الجلابيب من بعضهن، فلم يرشد إلى ارتداء ما هو ساتر وحسب، ومعلوم أن ملابسهن كانت ساترة يصلين فيها في المنزل. ألا يدل ذلك على أن هناك لباسا للحياة الخاصة داخل المنزل ولباسا آخر للحياة العامة خارج المنزل وهو الجلباب؟
الجواب:
هذا السؤال يطرح عدة مسائل يجب توضيحها للقارئ والسائل الكريم حيث إنه أثار عددا من المفاهيم الخاطئة التي تبلورت بعيدا عن كتاب الله تعالى.
أولًا: بالنسبة لقولك (قبل تحريم البغاء) ففيه مسألتان:
يظهر أنك تفهمين البغاء على أنه إيتان الفاحشة، ثم تذكرين عبارة (قبل تحريمه) فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل كانت الفاحشة حلالا ثمَّ حرَّمها الله تعالى؟ حاشا لله فهو سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن﴾ (الأنعام 151) وقد أوحى الله تعالى إلى نبينا كما أوحى إلى النبيين من قبله (النساء 163) فالفاحشة محرمة في شريعة جميع الأنبياء.
أما بالنسبة لمعنى كلمة البغاء فيجب علينا أن نفهمها من خلال كتاب الله ليتبين المعنى الصحيح، يقول الله تعالى: ﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (النّور 33)
فكلمة البغاء من البغي الذي هو التعدي[1]، وهو لا يقتصر على ارتكاب الزنا وحسب، ويتبين ذلك من قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ (الأعراف 33)
وقوله تعالى ﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا﴾ ليس أمرًا خاصًا بالإماء وليس خاصًا بارتكاب الزنا. فالآية موجهة لكل ولي أمر ألا يتعسف ويعسر أمر زواج ابنته أو من يلي أمرها ممن تريده زوجًا لها، وذلك كي لا يكرهها على عصيانه ومخالفة أمره، وقد تضطر الفتاة للهروب لتتزوج بمن تحب أو قد تقع فريسة سهلة لأصحاب القلوب المريضة بأن يغرر بها ويوقعها في المحظور.
ثانيًا: بالنسبة لقولك (أن الحكمة في الخمار واضحة وأنها غير واضحة في الجلباب سوى قوله تعالى ﴿ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ﴾ وأن معناه التفريق بين الإماء والحرائر).
فهذا مفهوم خاطئ وهو يتعارض ويتنافى مع حكمة فرض الحجاب بل يتنافى مع رحمة الله وعدله الذي لم يفرق بين عباده تحت أي مسمى قد وضعه الإنسان من العبيد والأحرار فقَالَ تَعَالَىٰ: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا، وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ، ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ (الأعراف 26) كما نرى فإن الأمر بتغطية العورات وتورية السوءات جاء عاما للرجال والنساء على حد سواء، ثم زاد على المرأة لباسًا ليحفظها ويصونها، وهذا هو معنى ﴿ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ﴾ أي يعرفن بالعفة فلا يؤذين، وعلة الأمر بالتستر موجودة لدى النساء جميعًا فلا فرق بين حرة وأمة، والدليل على ذلك نجده في الآية موضع الشاهد قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَىٰ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ، ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ، وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ (الأحزاب 59) كما نرى فالخطاب كما هو موجه لبنات ونساء النبي فهو كذلك موجه لبنات ونساء المؤمنين كافة.
ثالثًا: بالنسبة لقولك (أن أي لباس يستر العورات أمر غير صحيح بالنسبة للنساء، وأنها يجب عليها ارتداء الجلباب فقط) لقوله تعالى ﴿يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ﴾.
فإن كلمة الجلباب لا تعني زيًا معينًا، إنما تعني كل ما جُلب وجُمع ليغطي الجسد سواء أكان قطعة واحدة أو قطعتين وسواء أكان عباءة أم قميصا أو أيًّا مّا كان مسماه، المهم أن يؤدي الغرض منه وهو تغطية الجسد بلباس ساتر فضاض.
رابعًا: بالنسبة لسؤالك عن أنه يجب أن يكون للبيت لباس وللحياة العامة لباس آخر، فهذا صحيح، وهو أمر بديهي لعموم البشر سواء أكانوا رجالًا أم نساء أم أطفالًا، فليس مقبولا أن يخرج الشخص إلى الأماكن العامة مرتديًا لباسًا خاصًا بالبيت، ولو كانت تلك الملابس تصلح للخروج أو لأداء الصلوات ما وجَّه الله تعالى خطابه لبني آدم في قوله ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا، إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ (الأعراف 31).
وللمزيد حول الموضوع يُرجى مشاهدة حلقة ( خمار المرأة في القرآن) على الربط التالي https://www.hablullah.com/?p=5611
وكذلك مقالة (اللباس والفطرة) على الرابط التالي https://www.hablullah.com/?p=3003
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] (بَغَيَ) الْبَاءُ وَالْغَيْنُ وَالْيَاءُ أَصْلَانِ: أَحَدُهُمَا طَلَبُ الشَّيْءِ، وَالثَّانِي جِنْسٌ مِنَ الْفَسَادِ. فَمِنَ الْأَوَّلِ بَغَيْتُ الشَّيْءَ أَبْغِيهِ: إِذَا طَلَبْتَهُ. وَالْبُغْيَةُ وَالْبِغْيَةُ الْحَاجَةُ. وَالْأَصْلُ الثَّانِي: قَوْلُهُمْ بَغَى الْجُرْحُ: إِذَا تَرَامَى إِلَى فَسَادٍ، ثُمَّ يُشْتَقُّ مِنْ هَذَا مَا بَعْدَهُ. فَالْبَغِيُّ الْفَاجِرَةُ، تَقُولُ بَغَتْ تَبْغِي بِغَاءً، وَهِيَ بَغِيٌّ. وَمِنْهُ أَنْ يَبْغِيَ الْإِنْسَانُ عَلَى آخَرَ. وَمِنْهُ بَغْيُ الْمَطَرِ، وَهُوَ شِدَّتُهُ وَمُعْظَمُهُ. وَإِذَا كَانَ ذَا بَغْيٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ مِنْهُ فَسَادٌ. وَالْبَغْيُ: الظُّلْمُ. (مقاييس اللغة، مادة بغي)