كلمة الدِّين مشتقة من كلمة الدَّين[1]، فبينما تعني الأولى أن يكون الإنسان مدينا لله تعالى، تعني الثانية أن يكون الإنسان مدينا لإنسان مثله. وكلُّ حقٍّ للغير متعلِّق بالذمَّة فهو دين يولِّد المسؤوليَّة. وأكثر النَّاس يظنَّون أنَّه ليس لله تعالى دَينٌ عليهم[2]، لذا فإنهم لا يأبهون بما يجب عليهم في مقابل ذلك الدَّين.
يُعرِّف الله تعالى دِينه بالفطرة بقوله:
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (الروم 30/30)
“والفطرة من فطر بمعنى خلق وشق[3]، وهي مصدر نوعي على وزن الفِعْلة ومعناها الخِلْقة وهي الحالة الطبيعيَّة المكيَّفة عند الخلق وعند الشقِّ. والحالة الطبيعيّة للمخلوقات تكيَّفت مشتملة على وحدانيَّة الله في الخلق والملك والرزق والاستحقاق للعبادة، وعلى حُسْن الحَسن وقُبْح القَبيح من الأقوال والأفعال. وقد تكيَّفت كذلك متهيِّئَةً لخدمة الإنسان”[4]
فالفطرة تعني؛ مبادئ وقوانين الخلق والتغيير والتَّطور، وهي التي تُكَوِّن البِنيةَ الأساسية للكائنات.
دين الله تعالى هو مسؤوليَّة العيش وفقا للنظام الطبيعي نظرا لكون هذا النظام هو من صنع الله تعالى، ولأنّ فاعلَ ذلك يكون قد وقى نفسه من الفتن وحماها من المهلكات سمَّاه القرآن بالمتقي. يقول الله تعالى:
ذَٰلِكَ ٱلْكِتَٰبُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (البقرة 2/2)
قوانين الفطرة هي قوانين الطبيَّعة، ولا يملك الإنسان سوى الانسياق لمعظم هذه القوانين، أمَّا الدِّين فهو القسم الذي ينبغي على الإنسان أن يقبله طوعا من تلك القوانين، ذلك أنَّ الله تعالى قد خلق الإنسان للامتحان فكان التزامه بقوانين الدِّين واقعا في خياره. فمن اختار الحقَّ فقد فاز في الامتحان وسعد في الدَّارين، ومن رجَّح منافعه فقد خسر. يقول الله تعالى:
الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ. اللّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ. الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَـئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ. (إبراهيم 14/1-3)
العوج: العطف عن حال الانتصاب، يقال: عجت البعير بزمامه، وفلان ما يعوج عن شيء يهمُّ به، أي: ما يرجع، والعَوَجُ (بفتح العين) يقال فيما يدرك بالبصر سهلا كالخشب المنتصب ونحوه. والعِوَجُ (بكسر العين) يقال فيما يدرك بالفكر والبصيرة كما يكون في أرض بسيط يعرف تفاوته بالبصيرة[5]. الذين يخرجون عن الطريق يتظاهرون باستخدام عقولهم لتضليل الحقائق وتغييبها، لكنه لا يمكن كسب الاختبار دون أن يأذن الله تعالى، لذلك فإنه يمكنهم خداع الناس من خلال تلك التَّشوُّهات التي ينسجونها حول الحقائق، لكن لا يمكنهم خداع الله تعالى.
الذين يفضِّلون الحياة الدنيا على الآخرة هم في الحقيقة قد خرجوا عن الصراط؛ لأنَّهم لا يستخدمون عقولهم. يقول الله تعالى:
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ. (يونس 10/100)
من يكسبون الامتحان يشعرون بالرضى والطمأنينة بينما الذين يخسرونه يكابدون المرارة. يقول الله تعالى:
وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا[6]. فَأَلْهَمَهَا[7] فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا[8] (الشمس 91/ 7-10)
والإنسان عندما يكون على المحكِّ مع المعصية يبدو مرتبكا متردِّدا، فإمَّا أن ينجو بنفسه منها وإمَّا أن يواقعَها. وربُّنا ذو الرَّحمة الواسعة يُلقي في قلب العبد تحذيرا بأنَّك توشك على مواقعة المحظور، فاحذر. فإن انصرف عنه وجد الرِّضا في نفسه، وهذا عاجل بشرى المؤمنين، أمَّا إن واقعه فيضيق صدره، ويشعر بالتَّعب، وهذا أيضا من رحمة الله به؛ لتحريضه على التَّوبة والرُّجوع إلى الحقِّ.
*من مقالة الدين والعلم للأستاذ الدكتور عبد العزيز بايندر. لقراءة المقالة كاملة اضغط الرابط التالي https://www.hablullah.com/?p=3334
____________
[1] انظر لسان العرب لابن منظور، مادة دين [2] ومن ذلك قوله تعالى {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} سبأ 13 {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} يوسف 103 [3] ومن ذلك قوله تعالى في الآيات التالية: {فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} الأنعام 79 {قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} الإسراء 51 {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} الزخرف 27 {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ} الشورى 5 {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} الانفطار 1 {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا} المزمل 18 [4] أنس عالم أوغلو، مقالة (دين الله هو فطرته) على هذا الرابط http://www.hablullah.com/?p=2981 [5] مفرادات الراغب، مادة عوج [6] الذي جعلها تمتلك نفس الأعضاء التي يملكها الأشخاص الآخرون، فكل الناس متساوون في خلقتهم واستعداداتهم الفطرية، لكن المختلف هو ما تكسبه قلوبهم وأيديهم. [7] والإلهام هو إلقاء الله تعالى في قلب عبده شيئا يبصِّرُه الحقيقة. [8] دسي عكس التزكية، وَالْمَعْنَى كما جاء في لسان العرب: خَابَ مَنْ دَسَّى نفسَه أَي أَخْمَلها وأَخَسَّ حَظَّها، بترك الطاعات وفعل المنكرات.