السؤال: أولا: كيف يمكننا الجمع بين أن المهر صداق ونحلة و بين أنه أجر وهما معنيان عكس بعضهما؟ فالنحلة بدون عوض و الأجر بعوض. ثانيا: إذا كان المهر مقابل الاستمتاع فما الفرق بينه وبين العلاقات غير الشرعية؟
الجواب:
أولا: سمى الله تعالى المهر أجرا، وسماه نحلة أي عطية، وسماه صدقة. وتعدد المسميات لشيء واحد يقصد به تسليط الضوء على أهميته فيما تحمله دلالة تلك التسميات. يقول الله تعالى:
{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (النساء 24).
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} (المائدة 5).
{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} (الأحزاب 50)
فقد سماه في الآيات السابقة أجرا ليبين أهمية النكاح وأنه لا يحق لأحد غير الزوجة تملكه (كالولي) أو إسقاطه (كالقاضي) أو إنقاصه.
ويقول أيضا:
{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (النساء 4)
وقد سمي صداقا لأنه يبين صدق الرجل في اتخاذه مخطوبته زوجة بحيث يكون مستعدا للتضحية بماله من أجلها، ذلك أن الزوجة عندما تترك بيت أبيها لأجله لا بد أن يقدم لها ابتداء برهانا ماديا على أنه راغب بها مستعدا للبذل في سبيل قبولها به زوجا.
ثم وصف الصداق بأنه نحلة، أي: عطية، لأنه في غير مقابل يختص به الرجل؛ إذ الاستمتاع حاصل لكليهما. ولو كان المهر بمقابل استمتاع الزوج لما ثبت للزوجة نصف المهر بمجرد العقد، ولما ثبت لها تمامه بمجرد الخلوة أو بموته عنها ولو لم يدخل بها.
يقول ابن عاشور في معرض تفسيره للآية السابقة: “وسُمِّيَتِ الصَّدُقاتُ نِحْلَةً إبْعادًا لِلصَّدُقاتِ عَنْ أنْواعِ الأعْواضِ، وتَقْرِيبًا بِها إلى الهَدِيَّةِ، إذْ لَيْسَ الصَّداقُ عِوَضًا عَنْ مَنافِعِ المَرْأةِ عِنْدَ التَّحْقِيقِ، فَإنَّ النِّكاحَ عَقْدٌ بَيْنَ الرَّجُلِ والمَرْأةِ قُصِدَ مِنهُ المُعاشَرَةُ، وإيجادُ آصِرَةٍ عَظِيمَةٍ، وتَبادُلُ حُقُوقٍ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وتِلْكَ أغْلى مِن أنْ يَكُونَ لَها عِوَضٌ مالِيٌّ، ولَوْ جُعِلَ لَكانَ عِوَضُها جَزِيلًا ومُتَجَدِّدًا بِتَجَدُّدِ المَنافِعِ، وامْتِدادِ أزْمانِها، شَأْنُ الأعْواضِ كُلِّها، ولَكِنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ هَدِيَّةً واجِبَةً عَلى الأزْواجِ إكْرامًا لِزَوْجاتِهِمْ”[1]
ويقول الدكتور وهبة الزحيلي: “والحكمة من وجوب المهر: هو إظهار خطر هذا العقد ومكانته، وإعزاز المرأة وإكرامها، وتقديم الدليل على بناء حياة زوجية كريمة معها، وتوفير حسن النية على قصد معاشرتها بالمعروف، ودوام الزواج. وفيه تمكين المرأة من التهيؤ للزواج بما يلزم لها من لباس ونفقة “[2] .
فالمهر في الظاهر أجر، لكنه في الحقيقة عطية وإكرام للمرأة، وهذا من بلاغة القرآن وعظمته أن جمع بين هذه المعاني الثلاثة.
ثانيا: ليس المهر هو الفارق الوحيد بين النكاح والسفاح كما يتصور البعض، فالنكاح هو عقد متين بين رجل وامرأة راشدين خاليين من موانع النكاح بإشراف ولي المرأة ووجود الشاهدين، وذلك بهدف بناء أسرة على أساس الود والأنس والتآلف تسهم في بقاء النوع الإنساني من خلال التناسل والتوالد. يقول الله تعالى:
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم 21)
{والله جعل لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً} (النحل 72)
نفهم من الآيتين السابقتين أن علاقة كل واحد من الزوجين بالآخر كعلاقة المرء بنفسه، كما يشير تعالى إليه بقوله:
{هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} (البقرة 187)
والنكاح هو عقد على التأبيد له أهداف بعيدة المدى، بخلاف السفاح الذي هو علاقة عابرة لا يقصد منها سوى إشباع الحاجة الجنسية.
ويعد المهر من شروط النكاح وليس من أركانه، فلو تم العقد دون ذكر المهر فالعقد صحيح، لكن ذلك لا يسقط حق المرأة في المطالبة به، ولها عند ذلك ما تعارف عليه أهل قومها من المهر.
وقوله تعالى: ﴿ولا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَرَٰضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ ٱلْفَرِيضَةِ﴾ يدل على أنه إذا أعطى الرجل المهر كاملاً بعد الدخول فليس عليهما بعد ذلك من حرج في أن تسقط المرأة من مهرها لزوجها، أو تؤجله أو تهبه كله له أو بعضه إذ ذاك لها وهي صاحبته لقوله تعالى: ﴿فَإن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً﴾ (النساء ٤).
هذا هو المتبادر إلى الذهن عن الزواج في الإسلام أو النكاح في الإسلام.
فالمهر لا يشبه أجر البغي من أي وجه، فبينما هو دليل على جدية الرجل في النكاح وتأمين على عقد النكاح فإن أجر البغي ما هو إلا مال يبذل للعلاقات العابرة التي لا يقصد منها سوى إشباع الشهوة، وهذا هو السفاح الذي تهدر فيه كرامة المرأة وتنهار بسببه الأسر وتختلط به الأنساب.
والمسلم الحق هو الذي يسلِّم لله تعالى بما أمر وشرع ولا يجد في نفسه حاجة من قضاء الله تعالى ورسوله، فهو سبحانه الخالق اللطيف بعبادة العالم بما يصلح عليه حالهم. يقول الله تعالى:
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾ (الأحزاب ٣٦)
*وللمزيد حول الحكمة من تشريع المهر ننصح بقراءة مقالة جمال نجم (فلسفة المهر) على هذا الرابط https://www.hablullah.com/?p=3084
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ابن عاشور(١٣٩٣ هـ) التحرير والتنوير
[2] الفقه الإسلامي وأدلته (9/ 6760)