كما سيتضح من الآيات ذات الصلة ، فإن الحكمة هي علم إيجاد الحلول من كتاب الله. وبناء على ذلك ، فليس من المرجح أن تكون كلمات الإمام الشافعي التالية صحيحة:
“قرن (الله تعالى) الحكمة بها بكتابه، فاتبعها إياه، ولم يجعل هذا لأحد من خلقه غير رسوله”[1]
اعتبر الشافعي أن الحكمة شيء خارج القرآن علما أن الله تعالى ذكر بوضوح أنه أنزلها في كتابه، يقول الله تعالى مخاطبا نبيه الخاتم:
{وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ ٱلْكِتَٰبِ وَٱلْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ} (البقرة 2/231)
لم يشر الله تعالى إلى الكتاب والحكمة هنا بضمير التثنية، بل استخدم الضمير المفرد. مما يدل على أن الحكمة هي من جنس الكتاب ومتلبسة به، لذا فقد علَّم محمدٌ أمَّته الحكمة بصفته رسولًا مع الكتاب[2]. بالإضافة إلى أن الله أنزل الكتاب والحكمة ليس فقط على محمد بل على جميع الأنبياء[3].
وقول الشافعي: “وسنة رسول الله مُبَيِّنَة عن الله معنى ما أراد، دليلا على خاصِّه وعامِّه” هو قول مخالف للقرآن كذلك، لأن محمدا عليه الصلاة والسلام ليس مفسرا للقرآن، بل المفسر هو الله تعالى بنفسه، وقد وضح الله تعالى هذه الحقيقة في 18 آية[4]، وقد بين بهذه الآيات أنه لم يعط أحدا غيره صلاحية تفسير كتابه:
{الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ. أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ[5] نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} (هود 11/1-2)
بحسب هذه الآيات، فإن من يحاول أن يشرح كتاب الله على طريقته سيضع نفسه مكان الله ويرتكب بذلك أعظم خطيئة وهي الشرك. وعليه فإن نسبة تفسير الكتاب إلى نبينا أمر غير مقبول.
وفقًا للآية التالية، هناك حاجة إلى معلومات قاطعة لاعتبار أي كلمة أنها من كلام الله تعالى:
{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (الأعراف 7/33)
اعتبار كلام شخص ما على أنه كلام الله يعني وضعه في مقام الله. وهذا لا يصح إلا للآيات التي نقلها رسل الله كرسل. لأن طاعة رسول الله هي طاعة لله (النساء 4/80). لهذا السبب يجب على من يقول أنه رسول الله أن يثبت ذلك، وهذا هو سبب اتيان الرسل بالمعجزات. معجزةُ محمد الباقية حتى يوم القيامة هي القرآن، وهو ليس مثل معجزات الأنبياء السابقين التي لم يبق لها أثر. فهو معجزة يمكن رؤيتها ومعايشتها دائمًا. إحدى الآيات ذات الصلة هي قوله تعالى:
{وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا۟ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِۦ وَٱدْعُوا۟ شُهَدَآءَكُم[6] مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ. فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا۟ وَلَن تَفْعَلُوا۟[7] فَٱتَّقُوا۟ ٱلنَّارَ ٱلَّتِى وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ، أُعِدَّتْ لِلْكَٰفِرِينَ} (البقرة 2/23-24)
وقد نزلت آية مشابهة تخص شخص محمد (ص). لأنه كان يجب أن يتأكد قبل أي شخص آخر من أنَّ الذي جاءه من الكتاب هو من عند الله تعالى:
{فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ[8] مِن قَبْلِكَ، لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (يونس 10/94)
أكثر الناس عرضة لوسوسة الشيطان هم الرسل والأنبياء، لأن إضلال أحدهم فيه إضلال كثير من الخلق، يقول الله تعالى:
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ[9] ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (الحج 22/52)
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا، وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ، فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} (الأنعام 6/112)
لهذا السبب ، يتم حماية النبي من تدخل الشياطين حينما يوحى إليه. الآيات التي تبين ذلك هي:
{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا. إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا. لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} (الجن 72/26-28)
الحكمة هي العلم الذي يوفر الإمكانية للوصول إلى الأحكام من كتاب الله تعالى. لقد ورد في الآيات 26-51 من سورة الأعراف ذكر العديد من النعم التي أنعمها الله تعالى على بني آدم، وتوجيهات للأنبياء وأتباعهم عن كيفية مواجهة الأحداث وتصرفات المخالفين، ثم بعد ذلك ذكر سبحانه أنه فصل الكتاب الذي بعثه للناس بأسلوب علمي:
{وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف 7/52)
تعليم الله تعالى الحكمة لرسله[10] وتعليم الرسل إياها[11] اقتضى بالضرورة أن تكون الحكمة موجودة في كتب الله تعالى، ووجود كل التفاصيل المتعلقة بالحكمة في كتاب الله يقتضي أن يصل إليها كل من اجتهد للوصول إليها. يقول الله تعالى:
{يُؤْتِى ٱلْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ، وَمَن يُؤْتَ ٱلْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا، وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُو۟لُوا۟ ٱلْأَلْبَٰبِ} (البقرة 2/269)
يمكن الوصول إلى تفصيل الله تعالى لكتابه من خلال فريق عمل قد تعلم أفرادُه الحكمةَ من كتاب الله تعالى. يقول الله تعالى:
{كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (فصلت 41/3)
الحديث بإسم الله تعالى من غير كتابه يُعدُّ من الشرك (الأعراف 7/33)، لذا فإن جميع الأنبياء قد صدر منهم التحذير التالي:
{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ. بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ} (الزمر 39/65-66)
وهذا يعني أنه إذا نسب نبينا صلى الله عليه وسلم كلاما لله تعالى من غير القرآن سيكون مشركا (حاشاه)، لذا فإن العبارة التالية المنسوبة للإمام الشافعي لا يمكن قبولها:
“وسنة رسول الله مبينة عن الله معنى ما أراد دليلا على عامِّه وخاصه”.
والحق أن توجيهات النبي وأفعاله تعكس الحكمة الموجودة في القرآن. لكن تعليم الحكمة وتطبيقها على أرض الواقع ليستا نفس الشيء، عندما يعلم الطباخ الماهر تلاميذه فنون الطبخ فإنه لا يخطئ في تعليمهم، لكن أمهر الطباخين قد يخطئ عندما يقوم بالطبخ وإعداد الطعام، ونبينا الكريم لا يمكن أن يخطئ عندما يعلم الحكمة لكنه قد يقع في الخطأ عندما يحاول إيجاد حل من القرآن لمشكلة اعترضت له، والآية التالية تبين ذلك بوضوح شديد:
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ[12]، إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ، وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ، فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ، وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ، يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ، وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (النساء 4/176)
الضلالة هي الافتراق عن طريق الحق بقصد أو بدون قصد[13]. ولإجابة على سؤال حول الكلالة، وهي من أصعب قضايا قانون الميراث الإسلامي، فإن الخطأ لن يكون سهلا على وجه خاص. لذا تكفل الله تعالى بالإجابة المباشرة على هذه الفتوى، والعلة أن لا يضل المفتون بالجواب، وعلى رأسهم النبي بوصفه المخاطب الأول. لقد تم تشكيل هيكل الفقه التقليدي بطريقة تتعارض مع الحكم الصريح لهذه الآية. وفقًا للتراث الفقهي فإن الإجابة التي سيقدمها محمد عليه الصلاة السلام على سؤال طرح عليه حول مسألة دينية هي سنته، لأن الألفاظ المتعلقة بالسُّنة هي لمحمد صلى الله عليه وسلم بينما المعنى أو المحتوى فمن الله تعالى، وهو الوحي الذي جعله الله تعالى في نفسه، لذا يطلقون عليه الوحي غير المتلو. لو كان هذا الادعاء صحيحا فهل يمكن أن يكون مثل هذا التعبير {يبين الله لكم أن تضلوا } موجودا في القرآن كتعليق على سؤال وُجِّه للنبي صلى الله عليه وسلم؟. أما موضوع السنة الذي تشكل على غير ما عرَّفها القرآن فقد تم أخذها إلى أبعد من ذلك ورُفعت فوق القرآن.
ينقل الأوزاعي عن يحيى بن كثير ما يلي:
“السنة قاضية على الكتاب وليس الكتاب قاضيا على السنة”[14]
وبالرغم من أن السؤال في الكلالة كان موجهًا إلى شخص واحد فقط ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، فمن المهم ألا يخاطب الله شخصًا واحدًا في قوله {يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} لأن تفسير القرآن ، أي الوصول إلى الحكمة لا يمكن بالجهود الفردية. فقد كان على نبينا أن يشكل فريقًا للإجابة على هذا السؤال. دعنا نكرر الآية حول هذا الموضوع:
{كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (فصلت 41/3)
هذا الفريق كان من غير الممكن أن يتكون إلا من المسلمين الذين علمهم محمد عليه الصلاة والسلام الحكمة[15].
*المصدر: مقالة أ.د عبد العزيز بايندر (مصطلح السنة بحسب القرآن والتراث) ولقراءة المقالة كاملة يرجى الضغط على الرابط التالي https://www.hablullah.com/?p=5877
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الشافعي محمد بن إدريس، الرسالة، تحقيق أحمد شاكر، مصر، 1/79
[2] انظر البقرة 2/129 ، 152 ، آل عمران 3/164 ، الجمعة 62/2.
[3] آل عمران 3/81 ، الأنعام 6/89.
[4] الأنعام 6/55 ، 97 ، 98 ، 114 ، 119 ، 126 ، الأعراف 7/32 ، 174 ، التوبة 9/11 ، يونس 10/5 ، 37 ، هود 11 / 1-2 ، يوسف 12/111 ، الرعد 13/2، الإسراء 17/12، الروم 30/28 ، فصلت 41/3 .
[5] الضمير في (منه ) يعود إلى القرآن، لأن صفة الإنذار والتبشير خاصة به (فصلت 41/4). وقد قام نبينا بهذه المهمة بالقرآن. وعلينا كمسلمين أن نتصرف مثله.
[6] “شهداء” جمع شهيد، وهي هنا بمعنى أهل العلم (أحمد بن فارس. مقاييس اللغة ، مادة شهد). هذه الآية تقول للمشركين: إذا كنتم صادقين في دعواكم فادعوا من تعتبرونهم أعلم الناس وليكتبوا سورة مماثلة لتلك الموجودة في القرآن. إذا لم يستطيعوا فعل ذلك، فستفهمون أن هذا الكتاب هو كتاب الله تعالى، وعليكم الإيمان به، ومن يفعل فقد وقى نفسه من العذاب.
[7] هود 11/13، الإسراء 17/88
[8] كلمة الكتاب جنس، والمقصود جميع الكتب التي أنزلها الله تعالى.
[9] يرشد الله تعالى إلى التخلص من وساوس الشيطان بقوله: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ. وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} (الأعراف 200-202)
[10] آل عمران 3/48 ، النساء 4/113 ، المائدة 5/110 ، ص 38/20.
[11] البقرة 2/129، 151، آل عمران 3/164، الجمعة 62/2.
[12] الكلالة هو من مات وليس والد (أب أو أم) وولد (ابن أو بنت). إذا مات ولم يكن له أم ولا ولد فالآية 12 من سورة النساء تبين نصيب الأخوة لأم، وفي هذه الآية أيضا بيان لنصيب الأخوة لأب إذا لم يكن للمتوفى أب أو ولد. إذا لم تكن الأم على قيد الحياة فميراث الأخوة لأم يعطى بناء على الآية 12 من سورة النساء، وإن لم يكن الأب موجودا فالأخوة لأب يعطون نصيبهم بحسب الآية 176 من سورة النساء.
[13] انظر المفردات، مادة ضل
[14] سنن الدارمي، برقم 605، بيروت 1407
[15] انظر سورة البقرة 2/129 ، 152 ، وآل عمران 3/164 ، والجمعة 62/2