السؤال: هناك من يقول أن رمي الجمرات (رجم الشيطان) ليس من أعمال الحج لأنه غير مذكور في القرآن الكريم، حتى إن هناك من يقول بأنه نوع من الوثنية. فما هو قولكم في هذه المسألة؟
الجواب: رُوي عن ابن عباس أنَّه قال: “الحجُّ كلُّه مقامُ إبراهيم”[1]. وهذا قول موافقٌ لكتاب الله؛ لأنَّه تعالى وصف أولَّ بيت وُضِع للنَّاس بقوله: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} و “مَقَام إبراهيم” عطف بيان لـ : “آيات بينات” . فالكعبة هي البيت الأول من بيوت مكَّة المكرمة، وهي من شعائر الله.
ولما أغرق الله قومَ نوح هُدِمت الكعبةُ وبقي أساسُها[2]، أي قواعدها، فلما بعث إبراهيم رفعها وبناها من جديد، ثمَّ دعا الله أن يُرِيه مناسك الحجِّ بقوله: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة 128] لأنَّها أصبحت منسيَّة بالطُّوفان.
بعد أن أتمَّ إبراهيمُ بناء الكعبة وأظهر الله تعالى عليه المناسك الأخرى أمره بدعوة النَّاس للحجِّ بقوله:
{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج 27]،
وإنَّما أذَّن إبراهيم بالحجِّ فقط ولم يبيِّن شيئا منه؛ لأنَّ الأنبياء كلَّهم أمروا أُممَهم بالحجّ، فكان الناس يعرفونه بدلالة قوله تعالى:
{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء 163]
والحج واحد من العبادات الأساسية التي أوحى الله تعالى بها لجميع الأنبياء.
بعد فراغ إبراهيم عليه السلام من بناء الكعبة أراه الله المناسك كلها، وهي الموجودة في وادي بكة الممتد من الكعبة حتى جبل عرفات مرورا بمنى ومزدلفة، ولم يقل الله تعالى لإبراهيم أن يعلم الناس الحج لأنه معروف سابقا بل أمره أن يؤذن به في الناس، أي يدعوهم إليه.
الكثير من أعمال الحج لم تذكر صراحة في كتاب الله تعالى لسبب بسيط وهو أن أعماله كانت معلومة معروفة، فلو نظرت لن تجد أمرا مباشرا للوقوف بعرفات الذي هو أعظم مناسك الحج كما لا يوجد ذكر لمزدلفة ولا منى. يقول الله تعالى:
﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة: 198]
لاحظ أنه لا يوجد أمر بالوقوف بعرفة لأنه معلوم، لكن الأمر بالإفاضة منه دليل على وجوب الوقوف عليه.
ولم يذكر الله تعالى شهور الحج في القرآن وإنما قال ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ [البقرة: 197]
ولأنها معلومة سلفا لم يذكرها سبحانه، ولو لم تكن كذلك لتساءل الناس أي أشهر هي؟ ولأنكر المشركون وصفها بالمعلومة وهي ليست كذلك.
لقد أمر الله تعالى المؤمنين بمتابعة السابقين بحجهم إلا ما كان من مظاهر الشرك:
﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ [البقرة: 200]
أي فاذكرا الله كما ذكرتم آباءكم يذكرونه.
فقد كان العرب قبل الإسلام يحجون البيت ويقومون بكل أعماله التي توارثوها من لدن أبيهم إبراهيم عليه السلام، وكان من ضمن ذلك رمي الجمار في أيام التشريق. وهذا لا يعني أنه لم يكن هناك مخالفات وتجاوزات أثناء تأديتهم المناسك، ذلك أن شركهم قد أثر على أعمال الحج فكانوا يعظمون الأصنام ويذبحون لها، ولما جاء الإسلام أقر ما كان صحيحا مما توارثوه من دين إبراهيم ونهاهم عما أحدثوه من البدع ومظاهر الشرك، فكان لا داعي لأن يشرح القرآن كل تفاصيل الحج التي هي معلومة ومعروفة.
ولم يذكر رمي الجمار صراحة في كتاب الله شأنه شأن كثير من أعمال الحج لكن هناك ما يشير إليه في القرآن، وهو قوله تعالى:
﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ [البقرة: 203]
معدودات أي محسوبات من أيام الحج، أيام منى التي بعد يوم النحر هي ثلاثة، وفيها يرمي الحجيج الجمرات، ومن شاء تعجل في يومين، ولا يصح لحاج أن يغادر قبل إنهاء ما يجب عليه في هذه الأيام.
وقد التزم النبي أمر الله تعالى برمي الجمرات ورمى معه المسلمون، وقد جح مع نبينا في حجة الوداع ما يقارب المئة ألف من المسلمين كلهم رموا معه، ثم تناقل المسلمون هذه الشعيرة جماعيا (تواترا عمليا) فلا مجال لإنكار مشروعيتها.
وقد روي عن نبينا أنه قال في حجة الوداع: “يا أيها الناس خذوا عني مناسككم فإني لا أدرى لعلى لا أحج بعد عامي هذا”[3]
لقد كان من الضروري أن يتابع الناس النبي في حجه لأنه الأسوة في تطبيق أوامر الله تعالى:
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21]
أما وصف رمي الجمرات بالوثنية فهو قول من لا يفهم حقيقته، ولا يعرف معنى العبودية التي أساسها التسليم لأوامر الله تعالى إن ثبت أصلها في كتاب الله تعالى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] تفسير الطبري – ج 3 – البقرة 124 – 195
[2] تفسير الطبري – (3 / 60)
[3] «جامع الأحاديث» (23/ 170 بترقيم الشاملة آليا) وأخرجه النسائي (5/270، رقم 3062)