السؤال:
لماذا لم تكتب الحضارات التي كانت بعصر النبي صلى الله علية وسلم عن حادثة انشقاق القمر ، حيث كان في عهد النبي الكثير من الحضارات، فهل يُعقل أنهم لم يروا الانشقاق؟
الجواب:
لا بد من تحديد المقصود بانشقاق القمر، هل هو المعنى المادي المتبادر أم هو تعبير بلاغي يُقصد منه أن أمر اقتراب الساعة قد بان واتضح.
وحتى نعلم المقصود بذلك علينا أن نتلو قوله تعالى:
﴿وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ، وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا، وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا﴾ (الإسراء 59)
فكلمة (منعنا) تفيد بأن الله تعالى لم يظهر أي معجزة على يد نبيه الخاتم عدا القرآن الكريم.
لقد طالب المشركون نبينا محمدا عليه السلام بالمعجزات التي تدل على نبوته، كحال من سبقوه من الأنبياء، فجاء الرد بأنه لن يُرسل لهم ما طلبوه؛ وذلك للسبب الذي وضحته الآية نفسها: (إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ).
ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى: ﴿بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ، فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ﴾ (الأنبياء 5)
فعندما وصف المشركون النبي بأنه شاعر قد افترى القرآن وأرادوا بدلا منه آية أخرى جاء الرد نفسه:
﴿مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا، أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ﴾ (الأنبياء 6).
وربما كان النبي يتمنى في نفسه لو يُظهر الله تعالى لهم آية تؤيده في دعوى النبوة لتجعلهم يؤمنون، فجاء الرد من ربه تعالى:
﴿وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَىٰ، فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ (الأنعام 35) وشبه هؤلاء بالموتى الذين لن يؤثر فيهم نزول الآيات:
﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ، وَالْمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ، ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ (الأنعام 36)
ثم ذكر طلبهم والرد عليه:
﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ، قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (الأنعام 37).
وقد طلبوا المعزات مرارًا وتكرارًا كما جاء في قوله تعالى:
﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ، قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ (العنكبوت 50)
لكن الله تعالى رد عليهم بتوجيه سؤال تكمن فيه الإجابة الدامغة لكلِّ من يسأل مثل سؤالهم:
﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ، إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (العنكبوت 51).
وكأن الله يقول لهم إن من لا تنفعه آيات القرآن الخالدة فلن تنفعه المعجزات المادية التي تظهر وتختفي بعد ذلك.
فهل الناس لا يكفيهم القرآن كمنهج حياة ورحمة ومعجزة باقية إلى يوم القيامة؟ ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ﴾ ؟!
وهل يليق بعاقل أن يترك تعاليم القرآن ويذهب يستبق للبحث عن معجزات أخرى تخاطب العينين أكثر من العقل، وما إن تظهر حتى تختفي؟!
جاء في تفسير الطبري ما يلي:
«وقوله (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ): أي وانفلق القمر، وكان ذلك فيما ذُكر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، قبل هجرته إلى المدينة، وذلك أن كفار أهل مكة سألوه آية، فآراهم صلى الله عليه وسلم انشقاق القمر، آية حجة على صدق قوله، وحقيقة نبوّته; فلما أراهم أعرضوا وكذبوا، وقالوا: هذا سحر مستمرّ، سحرنا محمد، فقال الله جلّ ثناؤه (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ)»[1]
ويظهر أن الطبري تأثر بالروايات الواردة في سبب النزول أو التفسير، وأغفل حقيقة نفي القرآن تلقي خاتم النبيين للمعجزات المادية، ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ..﴾ (الإسراء 59) ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ…﴾؟!
كما تجاوز الطبري المعنى اللغوي للانشقاق وأعطاه معنى الانفلاق رغم الفارق الكبير بين الكلمتين، جريا على اعتماد الرواية في فهم النص القرآني وإعطائها سلطة عليه وتطويعه ليتوافق معها.
وإن التزمنا منهج تفسير الكتاب بالكتاب سيتبين لنا أن قوله تعالى: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾ (القمر 1) مجاز في وضح الأمر على اقتراب الساعة، وليس معناه الظاهر أن القمر قد انشق أو انفلق إلى نصفين، وهذا كقولنا لوصف وضوح الأمر (واضح وضوح الشمس).
ومثل هذا في القرآن قوله تعالى: ﴿وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا﴾ [الزمر: 69] كناية عن انتهاء تظالم العباد بانتهاء التكليف وإقامة العدل بينهم.
وذلك بدليل دوام الآيات نفسها التي يقول تعالى فيها أن كل أخبار وأنباء الأمم السابقة جاءتهم لتزجرهم لكنهم استمروا على موقفهم:
﴿وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ. وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ، وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ ، وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ، حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ، فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ﴾ (القمر 2: 5)
ولكن المشركين يصرون على عنادهم رغم وضوح الآيات.
ولو كان المقصود بانشقاق القمر المعنى الظاهر المتبادر فلماذا يأتي اللفظ القرآني (وإن يروا كل آية)؟!
فمعنى (كل آية) أن هناك آيات أخرى والقرآن الكريم لم يذكرها.
فهل نزلت على النبي آيات ومعجزات كونية كثيرة بالرغم من أن الله تعالى نفى أنه أنزل مثل تلك الآيات؟
هل يُقبل التناقض بين كلام الله تعالى وبين فعله؟ حاشاه سبحانه.
وهل يُقبل أن تأتي الروايات بأخبار نفى القرآن حدوثها؟
فمن أصدق من الله قيلًا؟!
من أصدق كتاب الله تعالى أم تلك الروايات التي افترت حدوث معجزات غير القرآن الكريم لتصرف الناس عما جاء في هذا الكتاب العظيم الذي يصلح لكل زمان ومكان إلى قيام الساعة؟!
قَالَ تَعَالَىٰ: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (المائدة 15: 16).
وأخيرا يمكننا القول ببطلان الرواية لتناقضها مع كتاب الله تعالى، ولأنه لو انشق القمر إلى نصفين لشاهده جميع أهل الأرض وليس أهل مكة فقط. ومن هنا يتبين لماذا لم يكتب أحد من المؤرخين حول هذا الموضوع، فهو لم يحصل أصلا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] تفسير الطبري = جامع البيان ط دار التربية والتراث» (22/ 565)