السؤال:
هل صح حديث : ( لقد جئتكم بالذبح )، وما توجيه معناه ؟
الجواب:
هذا الحديث رواه أحمد في المسند، وهو جزء من رواية طويلة ملخصها أن النبي قال هذه العبارة لجمع من كفار قريش بعدما رأى منهم إعراضا عنه وعن دعوته وإيذاء له ولأصحابه بالقول والفعل.
وهذه الرواية ليست بالقوية من جهة السند، ولا شك أن السياق الذي وردت فيه العبارة كان متكرر الحدوث ولا يستبعد وقوعه من قريش التي عرف عنهم شدة الأذى لنبيهم، وانتهى بهم الأمر إلى إخراجه من مكة ومحاربته في بدر وأحد والخندق، وبقوا مناصبين له العداء حتى فتحت مكة ودخل أهلها في دين الله أفواجا.
لكن العبارة الأصلية في هذه الرواية وهي (لقد جئتكم بالذبح) يستحيل أن تكون قد خرجت من فم نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، لأن من يراقب سيرته مع قومه يدرك استحالة أن يقول لهم ذلك أو ما هو أدنى منه، فقد كان دائم اليقين بأن الله تعالى سيخرج من أصلابهم من يقول لا إله إلا الله[1]، ولأن الله تعالى أرسله ابتداء رحمة لقومه وللعالمين:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]
وقد أثنى الله تعالى عليه بما أبداه من رحمة ولطف في دعوة قومه فقال سبحانه:
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ، وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران: 159]
ومن كان هذا شأنه فلا يمكن أن يهدد أناسا بالذبح، بل كان يحذرهم من عقاب الله تعالى لهم في الدنيا والآخرة.
وحتى في حالة استمرارهم في التكذيب يقول سبحانه:
﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الأنعام: 147]
يقول ابن كثير رحمه الله :
“يقول تعالى : فإن كذّبك – يا محمد – مخالفوك من المشركين واليهود ومن شابههم، فقل : (رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ) ، وهذا ترغيب لهم في ابتغاء رحمة الله الواسعة واتباع رسوله ، (وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) ترهيب لهم من مخالفتهم الرسول خاتم النبيين”[2] .
فقد كان يحذرهم من عقوبة الله فيهم إن استمروا في الإعراض والتكذيب، ولم يكن يحذرهم مما سينزله بهم من الذبح والقتل، وشتان بين الأمرين بالنسبة للمتلقي.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ! قَالَ : ( إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا ، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً )[3]
وهذا الحديث موافق للآيات لذا فهو يمثل الحكمة الموجودة في الكتاب، أما رواية الذبح فهي مما افتري على رسولنا الكريم لتشويهه وقتل نبوته.
والآيات التالية تتحدث عن المجرمين الذين ما فتئوا يشوهون كل نبي ليصدوا الناس عنه، فيتلقف مَن في قلوبهم مرض تلك المفتريات على الأنبياء ويبنون عليها أحكاما في الوقت الذي يتركون فيه كتاب الله تعالى وراء ظهورهم وهو ناطق بالحق في كل مسألة:
﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ. وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ. أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا، وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ، فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ [الأنعام: 112-114]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] صحيح البخاري (3231)، صحيح مسلم (1795)
[2] ابن كثير، تفسير القرآن العظيم (3/357)
[3] صحيح مسلم (2599)