السؤال
نريد أن توضحوا لنا التعصيب من خلال آيات القرآن والأحاديث، لأن هناك بعض الآيات التي تكلمت عن التعصيب ولو بالتلميح.. أنا حقيقة لا أرى أن عصبة الرجل أحق من بناته الضعيفات خصوصا لو مات وهن صغار في السن.. بينما هم رجال قادرون على الكسب. وأريد أيضا أن توضحوا لم لا يرث أولوا الأرحام؟ حقيقة أصبحت أرى الرحم عندما استعاذت بالله لم تستعذ إلا من مثل هذه الفتاوى التي جعلت أولوا الأرحام لا يساوون شيئا في كل ما يخصّ المرأة من ميراث وزيارات وغيرها.
الجواب:
السؤال يحتوي على عدة مسائل يجب بيانها.
أولًا: مسألة التعصيب، فهذا مصطلح فقهي لم يأت ذكره في كتاب الله تعالى لا تصريحًا ولا تعريضًا، وقد وضعه الفقهاء ليميزوا به بين أصحاب الفروض وبين غيرهم، فأطلقوا لفظ العصبة على الوراثيين من غير أصحاب الفروض (أي الذين لم يحدد لهم الشرع نصيبا معينًا كالنصف أو الربع وغير ذلك من الأنصبة المحددة) والتعصيب عندهم لا يخص الذكر فقط وإنما قد تكون البنت عصبة مع غيرها، ولكن أكثر مسائل التعصيب تتعلق بالذكور.
وبعض مسائل التعصيب التي وضعها الفقهاء قد شابها التحريف لتعارضها مع كتاب الله تعالى جملة وتفصيلًا.
ومنها على سبيل المثال: قولهم في التعصيب أن الميت لو ترك بنتًا واحدة فأكثر فإنهن يحصلن على نصيبهن المحدد فقط ثم يشاركهن أقرب ذكر لهن حتى لو كان عما أو ابن عم، بخلاف ما إذا ترك الميت ذكرًا فإنه يحجب الإخوة وغيرهم ويحصل على جميع التركة.
واستدلوا على ذلك بقوله تعالى:
﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ، وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ، وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ، مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ، آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا، فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ (النساء 11)
والحقيقة أن المتأمل في الآية الكريمة وغيرها من آيات الميراث يجد أن كلمة (ولد) تدل على الذكر والأنثى، وأن كليهما يحجب إخوة الميت أو الأبعد من الأقارب.
وقد بين الله تعالى نصيب البنات هنا منفردات مع الأبوين الذين يرث كل منهما السدس، وبالتالي فلم يبق من التركة شيئًا. (1/6 + 1/6 + 2/3).
ولكن عند عدم وجود الأبوين ولم يكن للميت سوى بنت واحدة فأكثر فإنهن يحصلن على جميع التركة فرضًا وردًا، فيحصلن على النصيب المحدد من النصف أو الثلثين فرضًا، ثم ما تبقى من التركة ردًا.
فالبنت مثل الذكر كلاهما (ولد الميت) وكلاهما يحجب الإخوة، والدليل على ذلك آية الكلالة:
﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ، إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ، وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ، فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ، وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌۘ﴾ (النساء 176)
والآية واضحة الدلالة بأن الإخوة محجوبون بولد الميت ذكرًا كان أم أنثى.
ثانيًا: مسألة عدم توريث أولي الأرحام، فقبل أن نوضحها يجب التنويه إلى أن مقولة (الرحم قد استعاذت بالله) من الأقاويل المفتراة على الله تعالى ولا دليل على صحتها.
وقد ذكر الله تعالى حقوق أولي الأرحام في كتابه بشكل واضح وصريح فقال:
﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌۘ﴾ (الأنفال 75)
ولكن أولي الأرحام ينقسمون إلى درجات، فمنهم الأقرب للميت وهم الذين يدلون بصلة رحم مباشرة كالأبوين والأولاد ثم الإخوة ، وهؤلاء الأقارب لهم نصيب مفروض كما قَالَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَىٰ:
﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ، نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ (النساء 7)
ومنهم الأبعد درجة، وهم الذين يدلون بصلة رحم غير مباشرة للميت، كالأعمام والعمات والأخوال والخالات، فهؤلاء قد سبقهم إلى الميراث من هم أولى (الأقرب درجة).
وقد جعل الله سبحانه لهؤلاء نصيبًا غير محدد، وتركه لتقدير الورثة فيعطي كلٌ منهم بحسب نصيبه ومقدرته، وقد ذُكر هذا في الآية التالية للنصيب المفروض مباشرة:
﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ (النساء 8)
وما ذكره السائل من وجود قريبات يتيمات يحتجن للمال أكثر من الرجال الوراثين، فالله سبحانه هو أرحم الراحمين وأرحم بعباده من أنفسهم، وقد فرض على الأغنياء أن ينفقوا على المحتاجين من أقاربهم، وقد سمى هذه النفقة بأنها حقٌّ لهم، قَالَ سُبْحَانَهُ:
﴿فَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ، ذَٰلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ، وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (الرّوم 38)
ومن هنا فلا يجوز التنصل منهم بحجة أن الشرع لم يحدد لهم نصيبا، بل إن لهم حقا في مجمل المال ما يكفيهم، وهم وصية الله تعالى للأغنياء سواء أكانوا إناثًا أو ذكورًا فقراء، أو صغارًا لا يستطيعون الكسب والإنفاق.
وجدير بالذكر أن حق هؤلاء لا يُعد من مصارف الزكاة والصدقات قَالَ تعالى:
﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا﴾ (الإسراء 26)
وقَالَ جَلَّ في عُلاه:
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (النحل 90).
ولم يذكر الله تعالى لذوي القربى مقدارا محددا من النفقة لأن حقهم أن يُنفَق عليهم حتى كفايتهم، ألا ترى أنه ليس للابن أو الزوجة مقدارا محددا في النفقة لأن حقهم أن يأخذوا ما يكفيهم من غير إسراف ولا تقتير، وكذلك الحال بالنسبة للفقير القريب حتى يغنيه الله تعالى.