السؤال:
قرأت في إحدى الكتب أن الأديان اختراعات بشرية وأن الإنسان اخترعها ليصل فقط لهدف من الحياة ولكي يقلَّ خوفه من الموت، ولأنه لا شيء بعد الموت فقد اخترع الجنة والنار، ومن وقتها أنا مصابة بشك في ديني، أنا أصلي وأصوم وأحافظ على الأذكار، وإن أصابني ضر صبرت، لكن أحيانا يوسوس لي شيء في نفسي فيقول بعد صبرك إن وجدت في النهاية أنه لا شيء ستجازي عليه فما الفائدة؟، وعندما التزم بالزي الإسلامي يأتيني وسواس أنني أخنق نفسي، وأنني لو مت وبعدها لم أُبعث _استغفر الله_ وكانت النهاية بالموت فما فائدة أن أخنق نفسي في الدنيا؟، وهكذا صارت حياتي، وقد تعبت كثيرا ولا أجد شيئا يفيدني في المواقع الأخرى، تحدثت مع مواقع للرد على الشبهات لكن لم أشعر بأي إفادة من كلامهم، فلجأت لموقعكم لأنني دائما ما اقتنع بكلامكم، فأرجو منكم الرد السريع والدعاء لي لأني خائفة أن افتن في ديني.
الجواب:
شكرا على ثقتك بموقعنا ونسأل الله تعالى لنا ولك الثبات على الحق والسداد في الرأي، وبعد:
إذا لم يكن المسلم/ة متسلحا بالعلم الكافي فعلى الأقل عليه أن لا يستمع لأعداء الإسلام، وأن لا يجلس بمجلس يتم فيه الاستهزاء بدين الله تعالى، لا سيما إن لم يكن بمقدوره أن يواجههم بالحجة والبرهان لأنه ربما يتأثر بما يقولون. قال الله تعالى:
﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ، إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ، إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ [النساء: 140]
ويسعى أعداء الله بكل جهودهم لتحلل من أوامره ونواهيه بالزعم أن الله تعالى غير موجود أصلا أو بالزعم بأنه موجود لكنه لا حق له بالتدخل في شؤون الناس ، وهذا هو منهج الكفر في كل زمان ومكان حيث يقوم على إنكار الخالق أو إنكار حقه في الأمر والنهي، فهم يريدون العيش كما يحلو لهم، وبحسب أهوائهم ورغباتهم وليس بحسب ما شرع الله تعالى وأمر.
يقول الملحدون أن الإنسان اخترع الدين ليجيب عن أسئلة ما بعد الموت، والحق أن خوف الملحد مما بعد الموت جعله ينكر البعث تهربا من الاستعداد له، ذلك الاستعداد الذي يتمثل بالإيمان والعمل الصالح، ويقنع الملحد نفسه أنه إن أنكر البعث سيتحلل من الالتزام بما يقتضيه إيمانا وعملا، وهذا هو المعنى الدقيق لخداع النفس.
الآيات الأخيرة من سورة يس تتناول مسألة إنكار الملحدين للبعث وترد عليهم بالأدلة العقلية والآيات الكونية، يقول الله تعالى:
﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ.
قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ.
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ.
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ.
إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [يس: 78-83]
لقد خلق الله تعالى الناس على الفطرة، أي أن كل مولود يولد مؤمنا بخالقه يحس فيه بنفسه ويتوجه إليه، لكن عندما يفتح عينيه على الدنيا ويجد محيطا كافرا فإنه غالبا ما ينخرط فيه ويبتعد شيئا فشيئا عن فطرة الله التي فطر الناس عليها، لذا يصح القول بأن الكفر هو الطارئ على بني البشر وليس الدين. فالتدين هو الأصل والكفر هو الطارئ. قال الله تعالى:
﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ، ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ. مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [الروم: 30-32]
وقوله تعالى (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) أي راجعين إلى ما فطركم الله تعالى عليه، وهذا دليل على أن الأصل هو الإيمان وليس الكفر.
وقوله تعالى (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا) يشير إلى تعدد مذاهب الكفر بحسب تعدد الأهواء والرغبات، ذلك أن تعدد وجوه الكفر لازم لاختلاف الأهواء الدافعة إليه.
أما المؤمنون فوجهتهم واحدة يعبدون ربا واحدا وينقادون لما أنزل في كتابه، قال الله تعالى:
﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 71]
والدليل على أن الكفر هو الحادث وأن الإيمان هو الأصل هو لجوء الكافر إلى ربه عندما يستيقن الموت، ويضرب القرآن أمثلة على رجوع الكافر للإيمان عندما تنقطع عنه أسباب النجاة الدنيوية:
﴿وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ.
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ.
فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [يونس: 21-23]
ويحكي القرآن الكريم قصة اعتراف فرعون بكفره ورجوعه للإيمان لما أدركه الغرق:
﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [يونس: 90-91]
إن الاعتراف بالكفر وإعلان الإيمان لحظة الموت لا يقبله الله تعالى، لأنه جاء في وقت انتهاء الامتحان، وقد كانت الحياة كلها مسرحا له، فلو آمن قبل لحظة الموت لقبل الله تعالى منه. وهذه دعوة لكل ملحد أن يبادر بالاستجابة لداعي الإيمان في قلبه وأن لا يصر مستكبرا، لعل الله تعالى يتوب عليه وأن يبدل سيئاته حسنات، إنه يحب التوابين والمنيبين إليه.
*وللمزيد حول الموضوع ننصح بقراءة المقالتين المتعلقتين التاليتين:
(من هو الكافر) https://www.hablullah.com/?p=1608
(من هو المؤمن) https://www.hablullah.com/?p=1714