الباحث: د. عبد الله القيسي
مقدمة:
الدين هو مجموع العبادات والعقائد والأخلاق والشرائع، وبمعرفة مقاصده تتجلى الغايات التي جاء بها الرسل ونزلت بها الكتب، ويكون المؤمن على بينة من تفاصيل الدين وجزئياته إن ظلت تلك الأهداف والغايات حاضرة في ذهنه على الدوام، وإذا غابت تناقض واضطرب، وفقد البوصلة التي ترشده نحو المسارات الصحيحة. أما الشريعة فهي جزء من الدين، وهي الجزء المتعلق بتنظيم حياة الناس في عالم الشهادة، وبالتالي فإن مقاصد الشريعة هي الأهداف والغايات التي جاءت بها الأحكام التشريعية المنظمة لحياة الناس.
ومدخل دراسة مقاصد الدين يختلف عن مدخل دراسة مقاصد الشريعة، فمقاصد الدين مدخلها الآيات التي جاءت معللة مقصد وهدف إرسال الرسل وإنزال الكتب، والآيات التي جاءت معللة مقصد وهدف إرسال نبينا عليه السلام، وإنزال القرآن، أما مقاصد الشريعة فمدخلها استقراء الأحكام القطعية التفصيلية بهدف الوصول إلى كليات جامعة متسقة مع مقاصد الدين، ومع عالمية الرسالة.
مقاصد الدين:
باستقراء الآيات القرآنية والنظر في الآيات المعللة التي تشير إلى المقاصد والغايات نجد المقاصد التالية:
الأول: القسط هو المقصد من إنزال الكتب وإرسال الرسل، يقول تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحديد:٢٥]، هذه آية واضحة تقول ببساطة إن هدف إرسال الرسل وإنزال الكتب هو إقامة “القسط“، والقسط هو العدل، ومن فرق بينهما قال: إن العدل لفظ يحمل مفهوم المساواة، والقسط يعني النصيب العادل، والقسط ضده الجور، والعدل ضده الظلم.
الثاني: الرحمة هي المقصد من رسالة نبينا عليه السلام، يقول تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:١٠٧]، وهذه الآية واضحة في أن “الرحمة” للعالمين هي هدف رسالة نبينا عليه السلام، وهي رحمة للعالمين لا للإنسان فقط.
الثالث: التزكية، يقول تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ [الجمعة:2]. فإنها توضح أن هدفه هو تزكية الناس وتعليمهم الكتاب والحكمة.
الرابع: سعادة الإنسان هي المقصد من نزول القرآن، قال تعالى: ﴿طه* مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى* إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى﴾ [طه: ١-3]، فالآية تؤكد أن الله لم ينزل القرآن لشقاء الإنسان؛ وإنما هو تذكرة وموعظة للإنسان كي يسعد في الدنيا والآخرة.
الخامس: التوحيد من أهم مقاصد إرسال الرسل، يقول تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء:25]. وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ﴾ [النحل:٣٦]، فهدف بعثة كل نبي هو تحقيق التوحيد والعبودية لله سبحانه، والتوحيد في خلاصته هو تحرير الإنسان من عبودية ما سوى الله.
السادس: العبادة هي مقصد خلق الجن والإنس، يقول تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:٥٦]، فالعبودية لله مقصد من مقاصد الخلق.
السابع: الابتلاء هو مقصد الحياة والموت، يقول تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ [الملك:٢]؛ فالاختبار بحسن العمل مقصد من مقاصد الخلق.
الثامن: الاستعمار للأرض من مقاصد خلق الإنسان في الأرض، يقول تعالى: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هود:٦١]، فاستعمار الأرض، أي عمارتها، مقصد من مقاصد الخلق، وعمارتها تكون بقيم الحق والخير والجمال.
التاسع: حرية الاختيار، وهو مقصد مرتبط بالابتلاء وعمارة الأرض، إذ لن يكون ابتلاء حقيقي للإنسان إلا إذا مُنح حرية الاختيار، لأن الإكراه يسقط عنه المسؤولية، فحريته هي التي تمنحه المسؤولية في الآخرة، وعبادة الله طوعاً لا كرهاً لا تتحقق إلا بالحرية، ولهذا كانت الحرية هي الأمانة التي تحملها الإنسان وأشفقت بقية المخلوقات من حملها، لما فيها من مسؤولية في الآخرة، يقول تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾ [الأحزاب:٧٢].
ومنع الله سبحانه الإكراهَ على الإنسان من أي جهة كانت حتى لو كانت من الأنبياء والرسل، ولا يُكره إنسانٌ على أي فكرة كانت حتى لو كان الدين نفسه ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة:٢٥٦]. ومن يمنع عن الإنسان حريته فهو يقف أمام الأمانة العظمى التي حملها الله سبحانه للإنسان، ويقطع طريق الاختبار للإنسان، ويقف بذلك ضد مقصد الدين من خلق الإنسان.
فهذه أهم مقاصد الدين العامة التي ذكرتها الآيات، ويمكن أن نوزعها على أصول الإسلام الثلاثة، العقيدة والشعائر والشريعة، فتكون كالتالي:
مقاصد العقائد: التوحيد والعبودية.
مقاصد الشعائر: التزكية والتقوى.
مقاصد الشريعة: القسط والرحمة.
ومن تحقق بتلك المقاصد فقد حقق مقصد عمارة الأرض، ونجح في مقصد الابتلاء بحسن العمل، وحقق لنفسه مقصد السعادة والانسجام مع الكون.
مقاصد الشريعة:
تعود أول دراسة في استقراء أحكام التشريع إلى الفقيه الجويني (ت 478هـ) فهو أول إشارة لما صار يطلق عليه مقاصد الشريعة، يقول في كتابه “البرهان”: «وبالجملة، الدم معصوم بالقصاص… والفروج معصومة بالحدود، والأموال معصومة عن السراق بالقطع…” ([1]). فذكر مقصد حفظ نفس، والعرض، والمال، ثم وافقه تلميذه الإمام الغزالي (ت 505هـ)، في كتابه “شفاء الغليل” وأضاف حفظ العقل فصارت أربعة مقاصد كما مر معنا، ثم زاد الغزالي في “المستصفى” -وهو من آخر كتبه- المقصد الخامس وهو حفظ الدين، فصارت خمسة مقاصد.
إن ما أدرجه الفقهاء من أحكام اعتبروها لحفظ الدين هي أحكام داخلة ضمن حق الله لا حق العباد، وبالتالي لا يصح إدراجها ضمن مقاصد التشريع لأحكام المعاملات. وأما حفظ العقل المرتبط بعقوبة السكر فيكون أحياناً ضمن حق الله، ويكون في أحيان أخرى ضمن حق العباد، فإذا تعدى إلى حق العباد دخل ضمن مقاصد التشريع، وكان له عقوبة، وإن بقي ضمن حق الله فلا عقوبة دنيوية فيه، وترجى عقوبته إلى الآخرة.
وفي الحالة الأولى، أي حين يندرج حفظ العقل ضمن حق العباد، يمكن اعتباره داخلاً ضمن حفظ النفس، فكلاهما حفظ للوجود الحسي للإنسان، ومن ثم فإن استبعاد هذين المقصدين من منظومة الكليات الخمس وإدراجهما في حقوق الله الخالصة، هو الأنسب.
وأما حفظ النسل فإن كان المقصود به التوالد والتكاثر فإنه داخل ضمن حفظ النفس، وأما حفظ المال فيمكن أن يكون الكلية الثانية، باعتباره يحفظ للإنسان ما يقيم حياته واستمرارها، وبقي معنا كلية ثالثة يمكن أن تكون نواتها حفظ العرض، ولكن بمسمى أكثر شمولاً لقضايا كثيرة تحفظ وجود الإنسان من الزاوية المعنوية، وأشمل لفظ لذلك هو حفظ كرامة الإنسان، فتكون الكليات أو المقاصد للشريعة ثلاثة، كالتالي:
- مقصد حفظ النفس (ويعني حفظ الوجود الحسي للإنسان).
- مقصد حفظ كرامة الإنسان (ويعني حفظ الوجود المعنوي للإنسان).
- مقصد حفظ المال (ويعني حفظ الوجود المادي للإنسان).
وهذه المقاصد الثلاثة ستحقق للإنسان أهم ثلاثة حقوق هي: حق الحياة، وحق الحرية والكرامة، وحق التملك.
ويدخل في مقصد حفظ الوجود الحسي: كل أحكام القصاص والجروح، فكل ما يؤدي إلى إزهاق روحه أو مرضه أو جرحه أو الضرر بأحد أعضائه فهو ممنوع، ويعاقب مرتكبها. ويدخل فيها حفظ عقله من أي إتلاف أو إغماء أو تغييب حسي.
ويدخل في مقصد حفظ الوجود المعنوي: حفظ حريته وحقه في الاختيار وحقه في التدين، وحماية عرضه، وحفظ حقه في المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات. ولا يقهر بدون حق، ولا يكره ولا يستبد به ولا يفترى عليه أو يشوه بسمعته. ويدخل فيها حقوقه النفسية فلا تنتهك بما يؤدي لاختلال نفسيته.
ويدخل في مقصد حفظ الوجود المادي: حفظ حقوقه المالية، وعدم أخذ ماله أو محاربة رزقه أو الإخلال بوظيفته.
وهذه هي الحقوق الأساسية التي شرع للإنسان أن يدافع عن نفسه ضد منتهكيها، فمن اعتدى عليه قاتله، فإن قتل دفاعا عن دمه فهو شهيد، وإن قتل دفاعا عن ماله فهو شهيد، وإن قتل دفاعا عن حريته وكرامته فهو شهيد، وإن قتل دفاعا عن اختياره لدينه فهو شهيد. أي شاهد على قاتله يوم القيامة، وشاهد على قضيته في الدنيا.
ولا يحق للإنسان أن يعتدي بنفسه على تلك الحقوق، فلا يزهق نفسه ولا يحرق ماله ولا يشق على نفسه ويحملها فوق طاقتها، ولا يتناول ما يمرضه، ولا يتلف عضوا من أعضائه، ولكن إن حصل ذلك منه، فإنها من الآثام لا المفاسد، والعقوبات الدنيوية شرعت لأجل المفاسد، أما الآثام فحسابها عند الله إن لم يتب.
هذه المقاصد الثلاثة هي مقاصد الشريعة، والشريعة هنا هي ما عدا العقائد والشعائر، لأن تلك أحكام تعبدية تندرج ضمن حق الله تعالى، وهي عائدة للدائرة الخاصة للمسلم، أما مقاصد التشريع فإنها تنظم حياته المعاملاتية مع غيره.
وهذه المقاصد الثلاثة هي ما أشارت له الروايات مما ينبغي على المسلم أن يحافظ عليها حتى لو وصل به الأمر للقتال من أجلها، فالحديث الذي روي عن النبي عليه السلام بقوله: (مَنْ. قُتِلَ دونَ ماله فهو شهيد، ومَنْ قُتِلَ دون أهلِه أو دون دَمِه أو دون دِينِه فهو شهيدٌ)([2]).
(دونَ ماله) إشارة لحفظ الوجود المادي.
(دون أهلِه أو دون دَمِه) إشارة لحفظ الوجود الحسي.
(دون دِينِه) إشارة لحفظ الوجود المعنوي، والمعنى هنا دفاعاً عن حريته في اختيار دينه ضد من يريد فتنته عن دينه بالقوة.
وسنجد هذه المقاصد الثلاثة هي ثمرة استقراء أحكام الشريعة، ولذا كانت تتكرر كثيراً في كتابات الفقهاء والأصوليين قديماً وحديثاً، سواء قصدوا الحصر أو لم يقصدوا، يقول الطوفي: “من المحال أن يراعي الله عزَّ وجلَّ مصلحة خلقه في مبدئهم ومعادهم ومعاشهم، ثم يهمل مصلحتهم في الأحكام الشرعية، إذ هي أهم، فكانت بالمراعاة أولى، ولأنها أيضًا من مصلحة معاشهم إذ بها صيانة أموالهم ودمائهم وأعراضهم فلا معاش لهم بدونها، فوجب القول بأنه راعاها لهم، وإذا ثبت رعايته إياها لم يجز إهمالها لها بوجه من الوجوه، فإن وافقها النص والإجماع وغيرهما من أدلة الشرع فلا كلام، وإن خالفها دليل شرعي وُفِّقَ بينه وبينها بما ذكرناه من تخصيصه بها، وتقديمها بطريق البيان”([3]).
وقد عنون مسلم في صحيحه باباً باسم “باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال”([4]).
وخلاصة مقاصد التشريع التي يضعها المشرع القانوني أمامه حين يضع القوانين والأحكام ثلاثة:
الأول: مقصد حفظ الوجود الحسي للإنسان (حفظ النفس).
الثاني: مقصد حفظ الوجود المعنوي للإنسان (حفظ كرامة الإنسان).
الثالث: مقصد حفظ الوجود المادي للإنسان (حفظ المال).
وقف السليمانية/مركز بحوث الدين والفطرة
الموقع: حبل الله https://www.hablullah.com/
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) البرهان في أصول الفقه 2/179.
([2]) سنن أبي داود 7/151 برقم (2774).