الباحث د. عبد الله القيسي
الفاحشة، الإثم، المنكر، البغي، العدوان، مصطلحات خمسة جاء ذكرها في القرآن فما الفارق بين كل مصطلح منها وما الذي يبنى على تلك الفوارق؟
يقول تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 33].
في الفرق بين الفواحش والإثم والبغي يذكر المفسرون عدة أوجه لعل أقربها أن الفاحشة مخصوصة بالزنا، بينما الإثم مخصوص بالخمر.
فالآثام والفواحش هي الخطايا والمعاصي والذنوب التي يرتكبها الناس في حق الله، بما تدعوه إليها شهواتهم، كشهوة الفرج في الزنا، أو شهوة البطن في الخمر، والفواحش والإثم منها ما هو ظاهر ومنه ما هو باطن ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾، ﴿وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ﴾. والظاهر ما يَراهُ النّاسُ، والباطن ما لا يَطَّلع عليه النّاسُ ويقع في السِّرِّ.
أما البغي فهو الاعتداء على الناس في أموالهم ودمائهم وأعراضهم. ومن البغي الخروج على السلطة الشرعية التي اختارها الناس بالشورى، ومن البغي أيضاً ظلم الحكام لمواطنيهم والغلظة عليهم، وإرهاقهم، وإيذاؤهم في حرياتهم.
وقال تعالى في آية أخرى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: 90].
وهذه الآية جمعت بين الفحشاء والمنكر والبغي:
والفحشاء: اسم للفاحشة، وهي الفعلة المتجاوزة في أي أمر من أمور الشهوة حسيًا أو معنويًا.
والمنكر: هو ما تضافرت العقول الإنسانية على إنكاره وقبحه، وهو مناقض للفطرة السليمة. كقول الزور والبهتان، والإفراط في الاستهانة بحقوق غيره، والاندفاع وراء غضب جامح يخرج عن حد المعقول، إلى حد ما ينكره المجتمع ويتجافاه، ويقطع المودة وينقض ما أمر اللَّه تعالى به أن يوصل.
ويقابله المعروف وهو الأمر الذي تعارفته العقول، ولم تختلف عليه الأفهام، وهو الذي يكون متفقاً مع الفطرة السليمة الإنسانية التي لا تختلف فيه الناس.
والبغي: هو الاعتداء على الناس، والتجبر والاستعلاء عليهم، وأن يمنعهم حقوقهم ويأخذها بغير حق، وإن ذلك من آثار الوهم بأنه من صنف أعلى من صنفهم، فيغالي في الاستهانة بهم، ويبغي عليهم في حقوقهم، ويبخسهم حقهم، كما نرى الآن من بغى بعض الناس على بعض باسم أنهم سود، أو باسم أنهم من الأمم النامية، أو باسم الطبقات، فكل ذلك من وهْم الاستعلاء والغلو في إعطاء أنفسهم حقوقًا ليست لهم، ولكنهم يفرضونها لأنفسهم، وسببها بغيهم وظنهم أنهم من صنف فوق الناس وأن الناس دونهم([1]).
أما الفرق بين البغي والعدوان المذكور في قوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾[المائدة:2] فإن الغالب في استعمال البغي أن يكون في حقوق العباد والاستطالة عليهم، وأنه إذا قرن بالعدوان كان البغي ظلمهم بمحرم الجنس كالسرقة والكذب والبهت والابتداء بالأذى، والعدوان تعدي الحق في استيفائه إلى أكبر منه([2]).
وبتحديد الفروق بين المصطلحات وحدودها يمكن فهم فلسفة الشريعة الإسلامية في العقوبات، إذ إن العقوبة الدنيوية تكون أساسًا للبغي والعدوان في حق العباد، حتى تحفظ للناس أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وأما الذنوب والآثام في حق الله، فإن الأصل أن عقابها في الآخرة، إلا أن للآثام حالات معينة تصل للعقوبة، وذلك إن ارتبطت بشيء آخر غير الإثم ذاته، بأن يصير فيها بغي على الفرد أو المجتمع، يعرف ذلك من استقراء أحكام العقوبات في الآيات وفي الفكر الإسلامي.
ومن هنا نفهم عدم تقرير القرآن لعقوبة دنيوية لإثم شرب الخمر، إذ إن ما ورد من عقوبة كان اجتهادًا، وبالتالي فارتباطه بأي بغي أو عدوان على الفرد أو المجتمع يجعل له عقوبة دنيوية. ومن هنا أيضًا يمكن أن نفهم عقوبة إثم الزنا واختلافها عن عقوبة السرقة والقتل بعدة اختلافات، منها الشروط المشددة في الإثبات، باشتراط أربعة شهود، والشروط المشددة في الشهادة بأن يكونوا رأوا فعل الفاحشة ذاته، لا أن يكون ظنًا أو خلوة أو غيره، ومنها العقوبة على من يتهم غيره دون أن يلتزم بتلك الهيئة من الشهادة، ومنها الترغيب الكبير بالستر وتفضيله على الشهادة، ولكل هذه الفروق حكمة جليلة، فكل هذه النقاط المتربطة بهذه العقوبة تذهب بنا إلى معنى يريده الإسلام من وراء ذلك، إذ لو أراد عقوبة إثم الفاحشة لذاته لكان مشابهًا لمن قبله، ولما شدد في شروطه وإثباته ورغب بالستر فيه، وما يمكن استنتاجه من ذلك هو ألا تصل الفاحشة إلى سطح المجتمع فتكون ظاهرة علنية فيه، فتكون بذلك بغياً على المجتمع، وهذا لا يعني أن من ثبت عليه بأربعة شهود أنه لا يعاقب، وإنما الحديث هنا عن أن ذلك الذي سيثبت عليه ذلك العدد في الإثبات، يعني أنه قد وصل بالإثم لحدود الظاهرة، لا الفعل المستحق للستر.
وقف السليمانية / مركز بحوث الدين والفطرة
الموقع: حبل الله https://www.hablullah.com/
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ