الباحث: د. عبد الله القيسي
جاء الإسلام بفلسفة متوازنة تتطلب من الإنسان أن يحيا حياته الروحية والمادية في وقت واحد، فلا يغيب أحدهما على حساب الآخر كما هو في اليهودية والمسيحية، حيث تغلّب عند الأولى الجانب المادي وعند الثانية الجانب الروحي، هذا التوازن كان هو الصفة التي وصف الله سبحانه بها المؤمنين بالرسالة الخاتمة، فهم كما جاء وصفهم في التوراة أناس يهتمون بالعبادة التي تغذي روحهم، وكما جاء وصفهم في الإنجيل بأنهم أناس يهتمون بالعمل الذي يغذي حياتهم المادية.
يقول تعالى واصفًا النبي والمؤمنين:
﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً﴾ [الفتح:29].
فالآية تصف المؤمنين بأنهم أشداء على الكفار المُحاربين لهم المعتدين عليهم، رحماءُ بينهم وبارون عادلون مع من لا يعتدي عليهم.
ومن صفاتهم أنهم لا يُهملون عبادةَ الله، حيث تراهم رُكّعا سجّدا، يبتغون بذلك فضلَ الله ورضوانَه، وهذه هي صفة المؤمنين التي ذُكرت في التوراة.
أما صفتهم في الإنجيل فإنهم كالزرع الذي نبت لينًا ثم قوي فغلظت سوقُه فأثمر أحسن الثمر وأكثره مما يعجب الزراع ويرضيهم، وإن الله قد يسّرهم إلى ما يسّر وحلاهم بما حلاهم به ليغيظَ بهم الكفار أيضًا.
لما كان أصحاب التوراة من اليهود يهتمون بالجانب المادي على حساب الروحي ناسب أن يؤتى بصفتهم الروحية، فجاءت صفة من سيكون مع محمد أنهم ركع سجود.
ولما كان أصحاب الإنجيل يترهبنون في صوامعهم ويهتمون بالجانب الروحي على حساب المادي ناسب أن يأتيَ بصفة غير الركوع والسجود لأنهم يكثرون منها، ولأنهم يقصرون في الجانب العملي الدنيوي، ناسب أنْ يصفَ أصحابَ نبيه ممن آمن به بالزرع، فهو دليل العمل والحرث في الأرض دون تركها للرهبنة والتعبد فقط.
وهكذا فإن المؤمنين متوازنون فهم في النهار يحرثون ويعملون ويجاهدون، وفي الليل يركعون ويسجدون ويتلون ويخبتون لربهم، فلا يغلب عندهم جانبٌ على آخر، فنهارهم معاشًا، وليلهم زاداً، فلا يغلب عليهم الجانبُ المادي ولا الجانب الروحي وإنما يتنقلون بين ذلك.
والآية فيها إشارة إلى أنْ صفة الصلاة بالركوع والسجود كانت معروفة عند اليهود قبل تحريف كتبهم وربما بقيت معروفة عند أحبارهم، وعندما خاطبهم الله بتلك الصفات كانوا يعرفونها.