د. جمال نجم
مقدمة:
اتفاقية سيداو[1] هي معاهدة دولية اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1979م. وتصفها على أنها وثيقة الحقوق الدولية للنساء، صُدّقت المعاهدة في 3 سبتمبر من عام 1981م ووقعت عليها أكثر من 189 دولة، من بينها أكثر من خمسين دولة وافقت عليها مع بعض التحفظات والاعتراضات.
وترتكز الاتفاقية على مبدأ المساواة المطلقة والتماثل التام بين المرأة والرجل في التشريع، وفي المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وفي التعليم والعمل والحقوق القانونية، وكافة الأنشطة.
والاتفاقية فيها من البنود ما يتفق مع التصور الشرعي في المسائل المطروحة، ويمكن وصف تلك البنود بالإيجابية في الاتفاقية، لكن الإشكال في البنود التي تقضي بمسح الفوارق الجبلية التي اقتضت أحكاما شرعية خاصة، كما تلغي بنود أخرى القوانين المعمول بها في البلدان المحافظة التي تمنع أو تجرم العلاقات المحرمة خارج إطار الزواج والشذوذ والإجهاض وغير ذلك.
من خلال قراءة بنود الاتفاقية يجد القارئ أن الحديث لا يدور عن اتفاقية دولية بقدر ما هي فرض رؤية معينة من بعض الدول الغربية النافذة على بقية دول العالم. القوى المسيطرة في الغرب استطاعت عبر عقود من الزمن الاستيلاء على ثقافة الناس هناك حتى جعلتهم عبيدا لها، وهي تحاول تصدير النموذج إلى بقية دول العالم. لذلك فإن مصطلح اتفاقية لا يتناسب مع سيداو، بل التوصيف الصحيح لها أنها:
“حزمة من القوانين المطبقة في الغرب تم فرضها على جدول أعمال الأمم المتحدة لتمريرها إلى بقية دول العالم وشعوبه بوسائل الضغط المختلفة”.
فإن كان الأمر يتعلق بإملاءات خارجية فهو بلا شك لا يقع في مصلحة المُملى عليهم.
هذه الحقيقة يفهمها العقلاء في كل مكان، لذا يستغرب البعض تبني بعض الأنظمة في عالمنا الإسلامي ومن يدور في فلكها من كُتّاب ومشرعين لهذه الاتفاقية ومحاولتهم الترويج لها. والحق أنه ليس هناك ثمة قناعة بهذه الحزمة من القوانين، وإنما هناك خوف من رفضها، ذلك أن القوى التي وضعتها عازمة على تمريرها إلى جميع الدول خاصة تلك التي رهنت مصيرها بوجود الغرب وتعلقت بمقدراته بل استمدت شرعية وجودها منه.
في الوقت الذي لا يسمح الغرب بتصدير نموذجه السياسي القائم على التداول السلمي للسلطة بدعمه الأنظمة المستبدة الموظفة لخدمة مصالحه أو تصدير تجربته في التصنيع والتكنولوجيا فإنه لا يألوا جهدا في تصدير نمط حياته لا سيما المتعلق بنظرته للمرأة وعلاقتها بالرجل، التي تحولت عندهم إلى دمية تمتد لها يد الرجل وقتما يشاء ويتركها متى يشاء دون أن يشكِّل ذلك أي التزام عليه تجاهها.
المجتمعات الإسلامية كغيرها من المجتمعات تعاني من مشكلات اجتماعية كثيرة، وهناك ظلم تواجهه المرأة في كثير من المجتمعات الإسلامية، لكن تلك المظالم نابعة عن عدم تطبيق التعاليم الإسلامية ذات الصلة، أو لوجود قوانين يُزعم أنها إسلامية لاستنادها إلى أقوال الفقهاء والمذاهب لكنها ليست كذلك لمخالفتها نصوص القرآن ومقاصده، وهذا يحتم على العلماء المسلمين إعادة تأصيل المسائل الفقهية لا سيما المتعلقة بالظلم التي تواجهه النساء، وذلك بالرجوع إلى كتاب الله تعالى باعتباره مصدر المعارف والأحكام. وليس بانتظار إملاءات خارجية لتصحيح الأخطاء السائدة.
تحتوي اتفاقية سيداو من البنود ما يخالف القرآن نصا وروحا، ولا يمكن تمريرها من خلال اجتهاد فقهي مهما بلغ المجتهد فيه من المرونة والتساهل، لأنها تستهدف أسس النظام الإسلامي في نظرته للمجتمع ودور كل من الرجل والمرأة والأولاد على حد سواء. وفيما يلي نأتي على تلك البنود:
المادة (1) تنص على التماثل والتطابق التام بين الرجل والمرأة وإلغاء الفروق بينهما.
وهذه المادة تتناقض تماما مع طبيعة خلق الذكر والأنثى، ذلك أن التفاوت الجبلي بينهما يقتضي اختلاف وظيفة كل منهما . قال تعالى:
﴿وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى﴾ (النجم 46)، ﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى﴾ (آل عمران 35-36)
إن اختلاف طبيعة كل من الرجل والمرأة كان ضروريا لتكاملهما الذي يؤدي إلى استمرار الجنس البشري وحفظه من الانقراض، إن الرجل يفضل المرأة ببعض الميزات كما أن المرأة تفضل الرجل ببعض الميزات، وقد خلق الله تعالى هذا التفاضل بينهما كي يبحث كل منهما عما ينقصه في الآخر فيكون هناك معنى حقيقي لارتباطها وتضحية كل منهما في سبيل صاحبه، فينبغي أن تكون ميزة كل منهما جاذبة للطرف الآخر وليست محلا للتنافس وأخذ الدور، لذا أمر الله تعالى كلا منهما أن لا يتمنى ما فضل به الآخر عليه:
﴿ولا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْن﴾ (الأحزاب 35).
إن الرجل يفضل المرأة بالقوة، والمرأة تفضل الرجل بالزينة، وهذا التمايز جعل الرجل طالبا لها، وهي مطلوبة، لهذا كُلِّف بحمايتها والإنفاق عليها، بينما هي مكلفة بأن تحفظ نفسها له. وقال تعالى:
﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ﴾ (النساء 34)
والقوامة مصطلح خاصٌّ يبيِّن موقع الرَّجل في الأسرة، ويتحدَّد من خلاله واجبات الرَّجل والتزاماته تجاه أسرته، فهو المبادر لإقامة الحياة الزَّوجيَّة، كما أنَّه القائم عليها بتوفير المسكن والنَّفقة والحماية. ولا يُفهم من قوامة الرَّجل تسلُّطه على المرأة أو وجوب إذعانها له كما يروج له أعداء الإسلام، وإنما هي وظيفة أوكلها الله تعالى للرجل بسبب طبيعته التي تسمح له بالقيام بهذا الدور، وهو إذ يقوم به يوفر الجو اللازم للسَّكن والمودَّة والرَّحمة.
إن تطبيق المادة أعلاه يلغي ما قرره القرآن بشأن التفاوت بين خصائص الرجل والمرأة، ويجعل من المرأة شريكا ملزما بتحمل نفقات البيت في الوقت الذي يشق عليها ذلك نظرا لضعف بنيتها مقارنة بالرجل وانشغالها بأعمال ووظائف لا يمكن أن يكلف بها رجل بحكم اختلاف الطبيعة كالحمل والولادة والإرضاع والعناية الحثيثة بالأطفال، وهذا لا شك ظلم للمرأة لا إنصافا لها لأنه تحميل لها فوق طاقتها.
لقد استطاع الرجل الغربي المادي أن يريح نفسه على حساب المرأة وأن يصل إليها دون أن يتحمل المسؤولية الكاملة تجاهها، فأنكر المهر وزعم أنه ثمن للمرأة لا يليق بها أن تقبله، كما أنزل عن عاتقه تحمل تبعات الزواج من المسكن والنفقة وغيرها وجعل ذلك وظيفة مشتركة بينهما، وهكذا لم يبق للمرأة أي ميزة عنه، فهي تشقى وتعمل لتحصل على المال مثله، وهذا سيجعلها غير قادرة على الإنجاب وتربية الأولاد، مما سيخلق مشكلة اجتماعية كبرى تتمثل بنقص المواليد وبالتالي شيخوخة المجتمع وربما فناؤه إن لم يتم تدارك الأمر سريعا. وهو ما تعاني منه كثير من الشعوب الغربية المخلصة لمبادئ سيداو.
المادة (2) تنص على إبطال كافة الأحكام الدينية وغيرها التي تُميز بين الرجل والمرأة من قوانين الدول الموقعة عليها.
وهذا يعني أن تكون اتفاقية “سيداو” ملغية لأحكام الشريعة الإسلامية المتعلقة بالأحوال الشخصية، وهذه المادة تؤكد على دور قوى الكفر في صد الناس عن دينهم كما جاء في قوله تعالى:
﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾ (البقرة 120)
﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا، وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (البقرة 217)
والذي يقع على عاتق المسلمين هو التصدي لهذه الاتفاقية ورفض التوقيع عليها، لأن مطاوعة الكفار في أمور الدين يؤدي إلى الفساد والخسران في الدنيا والآخرة:
﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ﴾ (النور 25-26)
المادة (5) تنص على تغيير الأنماط الاجتماعية والثقافية لسلوك الرجل والمرأة، بهدف تحقيق القضاء على التحيزات والعادات العرفية وكل الممارسات الأخرى القائمة على الاعتقاد بكون أي من الجنسين أدنى أو أعلى من الآخر، أو على أدوار نمطية للرجل والمرأة.
هذه المادة تنص على تغيير الأنماط الاجتماعية والثقافية لسلوك الرجل والمرأة. ومعلوم أن الأنماط السلوكية للرجل والمرأة تعتمد على التعاليم الدينية إجمالا، وهذا لا ينفي أن يحدث سوء الفهم أو التعدي في استخدام الصلاحية، لكن هذا يعالج بالتوعية وتفعيل دور محكمة الأسرة لا بهدم المنظومة المستمدة من التعاليم الدينية. الرجل في الإسلام مكلف بالعمل والإنفاق على أسرته، والمرأة مكلفة بمتابعة شؤون أهل بيتها:
﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ (البقرة: 228)
والحياء سلوك مطلوب من الرجال والنساء على حد سواء، وهو واحد من أهم ما يميز شخصية المسلم، وبموجبه يلتزم كل من الجنسين الأدب في تعامله مع الآخر، حيث يترتب عليه أن لا تنشأ علاقات محرمة خارج إطار الزواج.
إن أهم ما تدعو إليه هذه المادة هو كسر الحواجز بين الجنسين على اعتبار أنه ليس ثمة داع لوجود أي حواجز، وهي دعوة للإباحية بطريقة غير مباشرة. يقول الله تعالى:
﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ. وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (النور 30-31)
هذه المادة تعتبر خطرا جسيما على الأسرة، ذلك أن فتح العلاقات المحرمة على مصراعيها سيقلل الدافع لإنشاء الأسر، ذلك أنها تقوم على منظومة أخلاقية متكاملة ابتداء من الزواج وليس انتهاء بأن يأخذ كل فرد فيها دوره المناسب لطبيعته وخلقته.
المادة (16) تتخذ الحكومات جميع التدابير المناسبة للقضاء على التمييز ضد المرأة في كافة الأمور المتعلقة بالزواج والعلاقات العائلية، وبوجهٍ خاصٍ في عقد الزواج ونفس الحقوق والمسؤوليات أثناء الزواج وعند فسخه، ونفس الحقوق والمسؤوليات فيما يتعلق بالولاية والقوامة والوصاية على الأطفال…إلخ
هذه المادة تستهدف _كما يظهر_ قوانين الأحوال الشخصية، التي تستند غالبا إلى التشريعات الدينية، وخاصة في بلدان المسلمين حيث يعتبر قانون الأحوال الشخصية هو البقية الباقية من منظومة القوانين الشرعية. وتهدف هذه المادة إلى التدخل الفظ في الشؤون الداخلية للمجتمعات وهذه مرحلة متقدمة في التدخل، فبعدما صاغت القانون الدولي المتعلق بتنظيم العلاقات الدولية ورسم الملامح العامة للأنظمة التي يمكن قبولها عالميا ها هم أنفسهم قد بدأوا بفرض القوانين المجتمعية والأسرية القائمة أساسا على العقائد الدينية والقيم والعادات الخاصة بكل مجتمع، بحيث تبدو جميع المجتمعات ذات السمة التي حددتها القوى الغربية الفاعلة في صياغة القرارات العابرة للحدود.
تطبيق هذه المادة يعني إبطال الأحكام الشرعية التالية:
أ_ إلغاء تعدد الزوجات، من باب التساوي بين الرجل والمرأة، وقد أباح الله عز وجل التعدد حلا لمشكلات اجتماعية عديدة، فقال:
﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ﴾ (النساء 3)
عندما يشرع الله تعالى أمرا فإنه يأخذ بالاعتبار المصالح العامة والخاصة للعباد، وعند التعارض بين المصلحتين يقدم العامة.
هناك اهتمام بالمصالح الفردية لكن إن كانت تتعارض مع المصلحة العامة تقدم المصلحة العامة.
إن بقاء الزوجة منفردة مع زوجها قد يكون مصلحة خاصة لها، لكن التعدد يحل مشكلة امراة أخرى ليس لها فرصة بأن تنفرد بزوج، كالمطلقات والأرامل ذوات الأولاد خاصة، عدا عن تعرض الرجال للموت بنسبة أعلى من النساء نظرا لظروف عمل كثير منهم ونظرا لاشتراكهم في الحروب وغير ذلك.
فلو حرم الله تعالى التعدد لكانت هناك أزمات ومشاكل اجتماعية عامة تفوق مشكلة الزوجة الأولى، لهذا شرع الإسلام التعدد وحدده بشروط ومعايير لعدم هضم حق الزوجة الأولى وغيرها[2].
بالرغم من الجهود المبذولة لمنع تعدد الزوجات إلا أن هناك تجاهلا تاما لتعدد العلاقات المحرمة خارج إطار الزواج، وهذا يلقي بظلال قاتمة من الشك على توجه القوى الداعمة لقانون سيداو. ففي الوقت الذي يحاربون فيه التعدد فإنهم لا يفعلون شيئا لمنع العلاقات المحرمة خارج إطار الزواج بالرغم من أضراره الكبيرة على المجتمع والأسرة لا سيما الزوجة، بل نجد تشجيعا على تلك العلاقات وذلك باعتبارها حرية شخصية وإحدى الخيارات المتاحة التي يحميها القانون ويجرم من يناوئها ولو بالكلام.
ب_ إلغاء العدة الشرعية للمرأة في حالتي الطلاق ووفاة الزوج لتتساوى بالرجل الذي لا يعتد بعد طلاق أو وفاة زوجته. وهذا مخالف لنصوص الكتاب التي فرضت العدة على المرأة المطلقة بقوله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ﴾ (الطلاق 1)
كما فرضتها على من توفي زوجها عنها بقوله تعالى:
﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً﴾ (البقرة 234).
والعدة في حال الطلاق أو الوفاة فريضة شرعيَّة لا يصح التهاون فيها، والحكمة منها في الطلاق إتاحة المجال لإرجاع الزوجة إلى بيت الزوجية من جديد قبل انقضاء العدة، أما الحكمةُ من العدَّة من الوفاة على وجه القطع لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، وهذا لا يمنع أن نتلمس الحكمة من تشريعها بالنظر إلى طبيعة الخلق، فطبيعة المرأة لا تحتمل الزَّواج من آخر بعد فقد زوجها خلافا للرَّجل، وحكم الله تعالى يتناسب مع خلقه وهو أعلم بهم. قال تعالى:
﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ (الملك، 14)
وعلى هذا فإن العدة تحمي المرأة من أن يخطبها الرِّجال وهي في حالة حزن على فراق زوجها، كما أنها مدة زمنية لازمة للمرأة لتقبُّل زوج جديد[3].
ت _ إلغاء مبدأ الولاية على المرأة في الزواج لتتساوى مع الرجل الذي لا يحتاج إلى ولي.
وهذا مخالفٌ لما قرره القرآن من اشتراط الولي في النكاح الوارد في قوله تعالى:
﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ (البقرة، 232)
﴿فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ﴾ (النساء، 26).
يُفهم من الآيتين أنَّ للولي حقَّ الإشراف على النِّكاح، وإلا لما كان لعضله معنى، كما يُفهم أنَّه يجوز له العضل (المنع) إذا تيقَّن عدم صلاحيَّة الخاطب لابنته بدلالة قوله تعالى ﴿إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي الخاطب والمخطوبة، وليس من المعروف أن ترضى بفاسق أو غير كفؤ. كما يُفهم من الآيتين أن إذن الولي مقيَّدٌ بالمعروف، وهذا القيد يمنع الأولياء من التَّعسف في استخدام هذا الحقّ. وتشريعُ دور الوليِّ في النِّكاح موافق للفطرة من جهتين:
الأولى: في إشراف الوليِّ على نكاح ابنته أو قريبته طمأنينة له على مصيرها، فإنَّ زواجها من غير مشورته فيه إنكار لدوره في تربيتها واهتمامه بها.
الثَّاني: في إشراف الوليِّ على النَّكاح تأكيد على مكانة المرأة في قومها وأنَّها ليست محلَّا لانتهاك حقوقها أو انتقاصها، وهذا ما يعزِّز مكانتها عند زوجها وقومه.
يُروى عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال:
«أيُّما امرأةٍ نكحت بغير إذن مَواليها فنِكاحها باطلٌ، ثلاثَ مراتٍ. فإنْ دَخَلَ بها فالمَهرُ لها بما أَصاب منها، فإنْ تَشاجَروا فالسُلطانُ وَلِيُّ مَن لا وَلِيَّ له”[4].
وهذا الحديث موافق لمقتضى الآيتين السَّابقتين. فإذا رفض أولياء المرأة تزويجها لمن تريد دون وجه حقِّ، فلها أن تلجأ إلى السُّلطان (القضاء) فيزِّوجُها، وزواجها عندئذ صحيح.
ث_ إلغاء مبدأ الالتزام المتبادل المترتب على عقد الزواج ، وقد وصف الله تعالى العلاقة الحقوقيَّة المتبادلة بين الزَّوجين بقوله:
﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ﴾ (النساء، 34)
لقد فضَّل الله الرِّجالَ على النِّساءِ بالقَّوة، كما فضَّل النِّساءَ على الرِّجالِ بالزِّينة كما أسلفت. وانطلاقا من هذا الاختلاف الجبلي كلف الله الزوج بدفع المهر لزوجته[5]. والإنفاق عليها؛ لأنَّه المؤهَّل لذلك لميزة القوَّة فيه، وهي مطلوبٌ منها أن تحفظ نفسَها له بالغيب لميزة الزِّينة فيها، وهي صفة جبلِّيَّة في النَّساء كما دلَّ عليه نصُّ الآية ﴿بما حفظ الله﴾.
إن الدعوة لتجاوز هذه الفوارق الجبلية التي يترتب عليها اختلاف القدرات والوظائف له غاية واحدة، وهو تحميل المرأة مسؤولية تكون فوق طاقتها غالبا، فهي _وفقا لهذا النظام_ مجبرة على الخروج إلى سوق العمل ومزاحمة الرجال، ما يجعلها في سباق غير متكافئ، ففي الوقت الذي يبدأ الرجل في التحلل من مسؤولياته تجاه المرأة فإنه يسهل له الوصول إليها بدون جهد أو تعب.
ثالثاً: أصدرت الأمم المتحدة سنة 2000م ملحقاً لاتفاقية “سيداو” يسمَّى “البروتوكول الاختياري” وهو يُعطي النساءَ الحقَّ في تجاوز الحكومات، والتقدم بشكاوى مباشرة إلى الأمم المتحدة. وبذلك يمنح لجنة الاتفاقية صلاحية كبيرة في إجبار الدول الموقعة على البروتوكول على تنفيذ الاتفاقية؛ تفاديًا للعقوبات التي يمكن أن تقع عليها إذا لم تلتزم التزامًا كاملاً بالتنفيذ.
ومثال ذلك: المرأة التي أخذت من ميراث أبيها على النصف من أخيها بحسب ما نص عليه القرآن الكريم فإنها تستطيع أن تتقدم بشكوى إلى لجنة سيداو حيث تطلب اللجنة تفسيرا لهذا التمييز المزعوم، وإذا لم تقدم الدولة تفسيرا تقبله اللجنة فستواجه ضغوطا مختلفة من قبل الدول الصانعة لهذه المعاهدة، وفي المحصلة أعطت هذه الدول لنفسها الحق القانوني في التدخل في أدق التفاصيل المتعلقة بالحياة الأسرية في الدول المستهدفة.
الخلاصة
إن اتفاقية “سيداو” هي إملاء غربي بحت وأبعد ما تكون عن معنى الاتفاقية، وتستهدف بالأساس تماسك الأسرة، فهي جزء من تطبيق العولمة الثقافية التي تهدف لإلجاء الأمم كافة لتبني النموذج الغربي في تصوره للمجتمع والأسرة والعلاقة بين الرجال والنساء.
لا يجوز للجهات الرسمية في بلدان المسلمين التماهي/التجاوب مع هذه الدعوات حتى لو كانت صادرة عن جمعيات نسوية تنتمي للمجتمعات الإسلامية، فتلك الجمعيات ممولة من الدول صاحبة الاتفاقية، والعاملون فيها منتفعون غير مقتنعين غالبا بجدواها، والواجب الذي يقع على الحكومات في الدول الإسلامية رفض الاتفاقية بشكل موحد حتى تستطيع تشكيل قوة رفض أمام التدخل الغربي في خصوصيات مجتمعاتنا الإسلامية.
إن واجب أهل العلم الشرعي كشف عُوار هذه الاتفاقية وما شابهها من الاتفاقيات وتحذير المسلمين منها خاصةً النساء المسلمات، لا سيما أنها تحتوي على مصطلحات قد يظهر منها التعاطف مع حقوق النساء لكنها في الحقيقة ضد مصلحتهن.
لا يجوز لمسلم أن يقبلها ولو بتحفظ، لأن نظام الأسرة الذي قرره القرآن يهدف إلى طهارة الفرد والأسرة والمجتمع، والأحكام الواردة في القرآن وإن بدت تكاليف تحتاج مقاومة لهوى النفس في قبولها، إلا أنها ضرورية لتحقيق هدف أسمى وهو طهارة المجتمع في الدنيا والفوز في الآخرة. يقول الله تعالى:
﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (المائدة 6)
وبعد أن ذكر الله تعالى الأحكام المتعلقة بالنكاح ومن يحرم أو يباح نكاحهن، قال معقبا:
﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا. يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ (النساء 26- 28)
الآيات القرآنية تبين غرض الله تعالى من تشريع الأحكام المتعلقة بالأسرة وغيرها، وهي تحقيق الحياة الكريمة التي تحتوي عناصر البقاء، ثم تبين أن الكافرين لا يروق لهم ذلك، لأنهم يعلمون أن طهارة الأسرة هي السبب في بقاء المجتمعات واكتسابها مناعة الانقراض، ولأنهم يعلمون ضعف مناعتهم تجاه هذه المسألة فرغبوا أن يغرق العالم كله في مركبهم المتهالك، وهذا ديدن/عادة أعداء الله في نظرتهم للفئة المؤمنة المتمسكة بمنج الله تعالى:
﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً، فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ (النساء 89)
عندما تعم الفاحشة يصبح الطهر جريمة في نظر الفاحشين، هكذا كان موقف قوم لوط من نبيهم والمؤمنين معه:
﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ. إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ. وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ (الأعراف 80- 82)
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وقف السليمانية/ مركز بحوث الدين والفطرة
الموقع: حبل الله www.hablullah.com
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] جاءت لفظة سيداو CEADAW من تجميع الأحرف الأولى لاسم الاتفاقية باللغة الإنجليزية Convention on Elimination of All Forms of Discrimination Against Women
[2] انظر مقالة (تعدد الزوجات) على موقع حبل الله في هذا الرابط https://www.hablullah.com/?p=1308
[3] انظر (عدة المرأة العجوز من وفاة زوجها) على موقع حبل الله في هذا الرابط https://www.hablullah.com/?p=1839
[4] سنن أبي داود، النكاح، باب 20 رقم 2083؛ الترمذي، النكاح، باب 14 رقم 1102؛ ابن ماجه، النكاح، باب 15 رقم 1879؛ مسند أحمد 6/66.
[5] انظر مقالة جمال نجم (فلسفة المهر) على الرابط التالي https://www.hablullah.com/?p=3084