إن اختلاف هذه الأمة إلى طوائف ومذاهب شتى له سبب وحيد هو البعد عن كتاب الله تعالى، وقد تمثل ذلك البعد بجعل القرآن أحد مصادر التشريع بدلا من أن يكون المصدر الوحيد له، وبالرغم من إقرار الطوائف أنه المصدر الأول للتشريع وفهم الدين إلا أننا نجدهم يقدمون عليه الرواية عن النبي أو الأئمة بزعم أن أقوالهم هي تفسير وشرح للقرآن، يصرون على هذا الطرح بالرغم من كون القرآن جاء تبيانا لكل شيء وأنه مفصل ومبين من منزله سبحانه، وبالرغم من كون المنقول عن النبي والأئمة يتصادم أحيانا مع مسلمات القرآن وبدهيات العقل.
ولما كان القرآن الكريم لا يوفر المبررات المطلوبة لترسيخ التشيع والطائفية والمذهبية كان لا بد من اختراع مصادر جديدة للدين يمكن من خلالها تكريس دين مواز يقدم الشرعية الدينية لرغبات كل طائفة وميولها السياسية والاجتماعية[1].
وقد اتبعت الطوائف لا سيما الشيعة الأساليب التالية لتكريس تواجدها وتعزيزه باعتبار أنهم يتمثلون دين الله تعالى:
الأول: التفسير المحرف للآيات
وذلك بتجاوز أصول التفسير التي وضعها الله تعالى لتفصيل كتابه الكريم، التي منها رد المحكم إلى المتشابه، وإيجاد المناسبات بين الآيات، ومراعاة اللسان العربي المبين، وبدلا من ذلك تم اللجوء لتفسير كتاب الله بناء على نقول ومرويات نسبت زورا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لتناسب المعتقدات الجديدة، كما تم الكذب على أئمة الشيعة وعلمائهم، حيث تختلف كل طائفة عن المقبول والمرفوض من تلك النقول. وسنأتي على ذكر أمثلة على تلك التفاسير التي تحرف الكلم من بعد مواضعه عند الحديث عن الأدلة التي استدل بها الشيعة في إثبات معتقد الإمامة.
الثاني: إنشاء منظومة حديثية خاصة بكل طائفة حيث تزعم كل واحدة منها أن ما لديها من الحديث صحيح بجملته وما لغيرها يغلب فيه الكذب والوضع. وهم بذلك تمثلوا قول الله تعالى في اليهود والنصارى:
﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ، كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ، فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ (البقرة 113)
الثالث: تعتقد كل طائفة أن منظومتها الحديثية تحظى بالقدسية الكاملة التي توازي قدسية القرآن الكريم، ثم تجعل منها مصدرا منفصلا للتشريع باعتبارها الوحي الثاني الذي تلقاه نبينا الكريم من غير أن يكون متلوا، وقد اتفقت الطوائف على هذا بالرغم من أن آيات القرآن الكريم لا تتحدث إلا عن وحي واحد أوحاه الله تعالى إلى نبينا الكريم كغيره من أنبياء الله تعالى الذين لم يتلقوا رسالة غير الموجودة في الكتاب المنزل، يقول الله تعالى مخاطبا نبيه الخاتم:
﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ، وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾ (النساء 163)
ولم ينزل على نبينا رسالة غير القرآن، ولو قرأنا الآيات المتعلقة بالوحي إلى خاتم النَّبيِّين (الذي بمعنى إنزال الرسالة) نجد أنَّه مخصوصٌ بالقرآن دون غيره، كقوله تعالى:
﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ (الأنعام 19)
﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ (يوسف 3)
﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾ (الشورى 7)،
لذلك لا يصحُّ أن يُطلق الوحي _بهذا المعنى_ على غير القرآن الكريم.
والمسلم غير مكلف إلا بما أوحاه الله تعالى لنبيه في القرآن، لأنه الكتاب الذي سيحاسب الناس يوم القيامة بناء على ما جاء فيه، أما ما أوحاه الله إلى الأنبياء من غير ما ورد في الكتاب فليس له صفة الرسالة التي يُكلف بها العباد، وإنما هو توجيه للنبي لفعل شيء يعينه على تبليغ الرسالة أو أداء مهمة معينة، ولا يجب على المسلم تقصي هذا النوع من الوحي أو الوقوف على حيثياته واستنباط الأحكام منه، لأنه ليس محلا للتكليف أصلا، ولأن منهج القرآن النهي عن أن يسأل المسلم عن التفاصيل التي لم تُطلب منه مباشرة:
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ، وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا، وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ. قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ﴾ (المائدة 101-102)
فالمسلم يقوم بالمطلوب منه ولا يبحث عما وراء ذلك مما سكت عنه القرآن ولم يبينه، لأن تكليف المسلم بالبحث عما وراء ما جاء في الكتاب فيه من الحرج الشيء الكثير، والحرج مرفوع عن المسلمين بالجملة. قال الله تعالى:
﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ (الحج: 78)
*ملاحظة: ما ورد أعلاه هو جزء من مقالة د. جمال نجم (الشيعة والتشيع في ميزان القرآن) المنشورة على موقعنا في الرابط التالي https://www.hablullah.com/?p=7836
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر عبد العزيز بايندر (الأديان الموازية والأمّيون) https://www.hablullah.com/?p=2913