لقد شكلت المنظومة الحديثية دينا جديدا يحتوي الحق والباطل معا، لكن الباطل فيه يغالب الحق، لقد اعتبرت الرواية عند كل الطوائف والمذاهب المصدر الذي لا غنى عنه لفهم القرآن وشرحه وبيانه، وتعاظمت مصادر التشريع للدرجة التي صار من المستحيل الوقوف على تفاصيلها، وصار المسلمون يشعرون بالعجر أمام كمِّ التكاليف الهائلة الملقاة على عاتقهم وذلك بعدما كان المسلم في عصر النبي يعرف الذي له والذي عليه بمجرد قراءة القرآن الكريم.
لقد تغولت كتب الرواية والتفسير والفقه عند المذاهب على كتاب الله تعالى، ولولا أن الله تعالى تكفل بحفظ كتابه الأخير لما بقيت إمكانية للرجوع إلى الحق بعد تعاظم دور تلك الكتب. لقد تحول الناس من دين مصدره كتاب الله تعالى إلى دين مصدره الرواية التي نقلها الناس واختلفوا فيها اختلافا شديدا.
يعترف التراثيون من أهل السنة والشيعة أن الروايات التي صحت لديهم عن نبينا الكريم قد ثبتت بالظن وليس باليقين، وبالرغم من أن القرآن ينهى عن اتباع الظن[1] إلا أنهم يصرون على اعتبار هذا الظن مصدرا مستقلا للتشريع حيث يعطونه سلطة لتفسير النص القرآني وتخصيص عامه وتقييد مطلقه، بل وتشريع الأحكام دونه، وهؤلاء الذين يتبعون الظن يبررون ذلك بأن القرآن مجمل يحتاج إلى ما يفصله وقد قال منزله:
﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا﴾ الأنعام (١١٤)
وأنه ناقص يحتاج ما يكمله، وتناسوا قوله:
﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ المائدة (3)
وأنه صعب يحتاج إلى شرح وبيان، بالرغم من تكفل الله تعالى ببيانه:
﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ القيامة (19)
وما بقي إلا أن يقولوا بأن القرآن الكريم كتاب أعجمي مليء بالطلاسم، والله تعالى يكرر قوله:
﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ القمر (17)
والآية التالية تنفي كل مزاعمهم جملة وتفصيلًا:
﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ﴾ (النحل 89)
ثم نفى أن للقرآن مُفصِّلا إلا رب العالمين حين قال:
﴿الر، كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ (هود 1)
ثم بيّن السبب مباشرة :
﴿أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ﴾ (هود 2)
إن قبول تفسير غير الله تعالى للقرآن يعني قبول غير الله تعالى شريكا له في كتابه، لهذا تولى سبحانه مهمة تفصيل كتابه بنفسه.
ولكن أغلب المسلمين تركوا تفصيل الله تعالى لكتابه، واتخذوا من دون الله تعالى شركاء له في كتابه متمثلين في علماء الطوائف والمذاهب والجماعات. يقول الله تعالى:
﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ (التوبة: 31)
هذه الآية وإن كانت في سياق توصيف الحالة الدينية عند النصارى إلا أنها عامة في كل الملل.
إن المسلم الحق يرفض الانتماء لأي مذهب أو حزب امتثالًا لأمر الله تعالى لرسوله:
﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ، إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ (الأنعام 159)
التسمية الوحيدة التي يرتضيها المسلم لنفسه هي تسمية الله تعالى له:
﴿هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ (الحج 78)
لم تُخضع الطوائف والمذاهب ذخيرتها الروائية لكتاب الله تعالى ورفضت عرضها عليه بالجملة، بحجة أنها وحي مباشر للنبي فلا حاجة لعرضها على كتاب الله تعالى متناسين أن إلزامية عرضها على الكتاب نابعة من التثبت من صحة نسبتها لنبينا الكريم، فقد تناقل الناس ميراث النبي في تطبيق الوحي لكن منهم من صدق ومنهم من كذب ومنهم من فطن ومنهم من نسي. والحق أن سبب الرفض هو علمهم أن منظومتهم ستنهار أمام الحق الذي سيبطل جميع الروايات التي ابتعدت بالمسلمين عن كتاب ربهم لتشكل أساسا للطائفة أو المذهب.
*ملاحظة: ما ورد أعلاه هو جزء من مقالة د. جمال نجم (الشيعة والتشيع في ميزان القرآن) المنشورة على موقعنا في الرابط التالي https://www.hablullah.com/?p=7836
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] [الأنعام: 116] [الأنعام: 148] [يونس: 36] [الحجرات: 12] [النجم: 23] [النجم: 28]