السؤال:
قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [الحج: 52]
لماذا قال الله عزوجل “من رسول ولا نبي”؟ فهل هناك فرق بين اللفظين، لأني فهمت أن الأنبياء كلهم رسل مبلغين عن ربهم رسالة السماء.
وسؤالي الثاني ما معنى كلمة “تمنى” في الآية؟ وهل آية ﴿ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ [النساء: 120] لها علاقة بهذه الآية؟
وما المقصود من (نسخ ما يلقي الشيطان) الوارد في الآية الأولى. أفيدوني جزاكم الله عنا كل خير.
الجواب:
إن جميع الأنبياء هم رسل مبلغون عن ربهم رسالاته، ولكن العكس غير لازم فليس كل رسول نبي، حيث أن وصف النبوة خاص بمن اصطفاهم الله تعالى وحملهم الرسالة عن طرق الوحي ليبلغوها للناس، لذا فإنهم يوصفون بأنهم أنبياء ورسل، يقول الله تعالى:
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ، فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ الحديد (26)
كما نلاحظ فإن الكتاب لازم النبوة، والكتاب لازم التبليغ، فيكون النبي رسولاً بالضرورة.
أما وصف الرسول فهو يطلق على الشخص المبلِّغ كما يطلق على الرسالة نفسها[1]، والرسالة موجودة في كل زمان ومكان إلى قيام الساعة.
قال تعالى عن النبي محمد ﷺ:
﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَٰكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ الأحزاب (40)
وهنا ملمح غاية في الأهمية ألا وهو أن النبوة انتهت بموت النبي الكريم، ولكن الرسالة باقية إلى قيام الساعة، لذا وصف الله تعالى نبينا الكريم بأنه ﴿خَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ ولم يصفه بأنه (خاتم المرسلين) بل أعطاه وصف (رَسُولَ اللَّهِ).
والرسالة المتمثلة في كتبه الله تعالى باقية، وكل من بلغها وعلمها إلى غيره فهو رسول مبلغ عن ربه. والفرق بين أي مبلغ وبين الرسل الذين بعثهم الله تعالى أنه لا يوحى لغير الأنبياء منهم لانقطاع الوحي بختم النبوة.
والدليل على ما ذكرنا أن النبي الكريم كان عربيًا وكذلك الكتاب نزل بلسان عربي مبين:
﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ الدّخان (58)
ومع ذلك فقد أنزل الله تعالى القرآن للناس أجمعين:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ سبأ (28)
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ يونس (57).
ولو كانت الرسالة انتهت بموت الرسول الكريم كما انتهت النبوة لما لزم غير العربي أن يؤمن بالنبي محمد ولا بالقرآن لأنه بغير لسانه، ولكن الله تعالى يهيئ في كل أمة رسولًا أي مبلغًا لكتابه بلغة قومه:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ، فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ إبراهيم (4)
وبالفعل فقد تصدى لمهمة تبليغ القرآن منذ نزوله علماء (رسل) اجتهدوا في ترجمة معاني القرآن إلى لغات أقوامهم ليفهموا رسالة الله فتقوم الحجة عليهم:
﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ، فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُۚ، فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ النحل (36)
وهذا هو واجب أصحاب العلم من أولي الألباب في كل زمان ومكان امتثالًا لقوله تعالى:
﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً، فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ التوبة (122)
أما بالنسبة لقوله تعالى:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ الحج (52)
فأمنية كل نبي أو رسول سواء أكان مرسلًا من ربه أو مبلغًا لكتابه هي أن يبلغ تلك الرسالة على أكمل وجه وأن يجاهد في سبيل ظهورها بكل ما أوتي من قوة، وهنا يأتي دور الشيطان فيلقي في نفسه ما يمنعه ويخوفه ليحول دون ذلك. قَالَ تَعَالَىٰ:
﴿إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ آل عمران (175)
لا تقتصر مهمة ثني النبي أو الرسول عن تبليغ رسالة الله تعالى على شياطين الجن بل يساندهم في ذلك شياطين الإنس الذين يضعون أمام الرسل العراقيل والعقبات كاتهامهم بالفساد أو السعي نحو السلطة أو إنكار السنة أو الإلحاد، وإيذائهم بالمضايقات والنفي أو الحبس أو التسفيه وغير ذلك.
ولكن الله تعالى (ينسخ) أي يزيل تلك الهواجس والشكوك من قلب النبي أو الرسول بإحكام الآيات وتبديد الشبهات، وبنصرهم وتأييدهم، فيثبت قلوبهم ويبدل خوفهم أمنا:
﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ التوبة (32)
وها هو نبيه وخليله إبراهيم قبل أن يصطفيه للرسالة يحاجج قومه وهو يبحث عن الحق وخالق الكون[2] بعد أن نسخ الله تعالى ما ألقاه الشيطان في روعه من البحث عن الإله في الكواكب، يقول لقومه دون خوف:
﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًاۚ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ، إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ الأنعام (81)
وأما عن علاقة قوله تعالى:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾
بقوله تعالى:
﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ، وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ النساء (120)
فهناك علاقة وطيدة بين الآيتين؛ ففي الآية الأولى أراد الشيطان أن يعبث بما يتمناه الرسل والأنبياء ومن سار على نهجهم فيحرفهم عن نور الإيمان ولكنهم تغلبوا عليه بالاستعاذة بالله منه والتقرب إلى ربهم والتمسك بكتابه وعدم الضعف أو الهوان وبالصبر على الأذى فتحقق وعد الله تعالى لهم:
﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ الحج (40)
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُواۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ آل عمران (146)
أما الآية الثانية فتتحدث عن حال من يتخلى عن تعاليم ربه ويترك الحق اليقين ويتبع الظنون الذي وصفه تعالى في السياق:
﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ، وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ النساء (115)
فمن يسلم نفسه للشيطان فإنه يتلاعب به ويمنيه بأن يفعل ما يشاء ويعصي كما يريد ليغير خلق الله تعالى بتلك الأماني والوعود الكاذبة:
﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِۚ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا. يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ، وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ النساء (120).
﴿وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ، وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ الإسراء (64)
تلك الوعود والأماني التي نجا منها المؤمنون الذين لم ينجروا خلفها بارتكاب المعاصي متسترين بالأوهام كدخول الجنة بالشفاعة أو بعدد من التسبيحات أو الحصول على صك الغفران بمجرد أنهم ولدوا لأبوين مسلمين!!
ويتضح هذا المشهد جليًا كما أنبأنا العليم الخبير عن حالهم يوم القيامة في قوله تعالى:
﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَاۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ الحديد (12)
فينادي عليهم من صدقوا وعود الشيطان:
﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ﴾ الحديد (13)
فيكون الرد عليهم:
﴿يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ، قَالُوا بَلَىٰ وَلَٰكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ الحديد (14)
وقف السليمانية/ مركز بحوث الدين والفطرة
الموقع: حبل الله www.hablullah.com
الباحثة: شيماء أبو زيد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الراغب الأصفهاني، المفردات، مادة رسل
[2] انظر هشام العبد، مقالة (الأسوة في إبراهيم) https://www.hablullah.com/?p=2502