السؤال:
ما المقصود من قول الله تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216] هل معنى ذلك أن نحب الأشياء التي نكرهها ونكره الأشياء التي نحبها أم ماذا؟
الجواب:
ليس معنى الآية أن نحب الأشياء التي نكرهها أو العكس كما قد يظن البعض، وكذلك لا تعني أن كل الأشياء التي يكرهها الإنسان فيها خير، ولكن الآية تعد من القواعد الربانية الملهمة التي تثلج صدر المؤمن وتمنحه السكينة والصبر، لأنها تبين أن كل أوامر الله تعالى ونواهيه فيها الخير للإنسان حتى لو كرهها أو وجد فيها ثقلا على نفسه، لأنه سبحانه وتعالى ختم الآية بقوله: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾.
وضرب لنا سبحانه وتعالى الأمثلة على ذلك في كتابه في آيتين كريمتين.
فالآية موضع الشاهد ذُكرت في القتال:
﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَعَسَىٰ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ البقرة (216)
فقد بيَّن لنا سبحانه وتعالى أن الفريق الذي كره القتال مخافة القتل لا ينبغي أن يخشى إلا الله الذي يحيي ويميت:
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً، وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ، قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ النساء (77)
وبيَّن في موضع آخر أن القتال لن يعجل بموتهم، وأنه إذا كتب عليهم القتل فلن يمنعه عنهم شيء:
﴿يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا، قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ آل عمران (154)
وأن القتال في سبيل تعالى ورد الاعتداء يقضي على الفتنة التي هي أشد من القتل، وأن المؤمن المقاتل بأمره تعالى يكون بين إحدى الحسنيين إما النصر على الأعداء وإما الشهادة التي لو علم من كره القتال مكانتها لتمنى الموت في تلك اللحظة، قال جل وعلا:
﴿الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا، قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا، بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ آل عمران (170)
والموضع الثاني ذُكر في أمره سبحانه وتعالى وحثه الأزواج بالتحلي بالصبر مع أزواجهم حتى لو صدر منهن ما يكرهه فيرد الإساءة بالإحسان معهن، قَالَ سُبْحَانَهُ:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا، وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ النساء (19)
وهذا ما نراه في مجتمعاتنا عندما يحدث خلاف بين الأزواج فيسارع الرجل بطلاق زوجته أو يعضلها ليأخذ ما أعطاها فخربت كثير من البيوت ودفع كثير من الأولاد ثمن هذا الاستعجال وندم كلا الزوجين، ولو تروى الزوج قليلًا وامتثل لأمر ربه وصبر على أهل بيته وقاوم تلك المشكلات التي من الطبيعي أن تحدث بين الزوجين اللذين تربى كل منهما في بيئة مختلفة لها عاداتها وتقاليديها ونسي كلاهما أن الخلافات تحدث حتى في العائلة الواحدة وبين الأب وأبنائه وبين الأخوة والأصحاب، ولو صدق كلاهما بكلمات ربه وأمره _حتى لو كرهه في البداية_ لزالت تلك العقبات واستمرت الحياة بينهما في طاعة الله سبحانه وتعالى.
وهذا لا يعني أن هذين الأمرين فقط ما يجب أن نطبق عليهما تلك القاعدة الربانية، حيث أن هناك كثيرًا من الأمور الحياتية التي تحدث خارج نطاق تصرف الإنسان وإرادته ويحزن من أجل حدوثها ثم يكتشف بعدها أن ما حدث قد نجاه من مكروه أكبر أو أبعده عن شر كاد أن يقع فيه، ليجد نفسه يردد وبدون شعور:
﴿وَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَعَسَىٰ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾
وعلى الجانب الآخر فقد يتمنى الإنسان شيئًا ويتعلق به ويحبه ثم يكتشف أنه سبب تعاسته أو يصيبه بمكروه وأذى، وهذا يعلمنا الصبر على ما لم نحط به خبرًا وأن نرضى بما تيسر لنا، وأن لا نجعل من هوى النفس مرجعا في الحكم على الأشياء، بل بجعل كتاب الله مرجعا وحكما في كل شيء، وهكذا يكون المسلم قد رضي عن ربه وتوكل عليه وصدق بكلماته فهنيئا له وعده سبحانه وتعالى:
﴿قَالَ اللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ، لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ المائدة (119).
وقف السليمانية/ مركز بحوث الدين والفطرة
الموقع: حبل الله www.hablullah.com
الباحثة: شيماء أبو زيد