وردت في القرآن الكريم أفعال مشتقة من “الإرادة” و “الشيء”. وهما مصدران. الإرادة بمعنى الطلب؛ وأما الشيء بمعنى الإيجاد. وكل واحدة منهما تستعمل اسما كما تستعمل مصدرا. المصدر يوضح العملية، أما الاسم حالة نشأت بتأثير هذه العملية.[1]ومعنى الإرادة عند كونها اسما هو الطلب، ومعنى الشيء عند كونها اسما هو الشيء الموجود.[2]
ومصدر الفعل، هو الأصل الذي تشتق منه بقية صيغ الأفعال. وحروف الماضي هي نفس حروف المصدر. وكلمة “الشيء” مكونة من الحروف التالية: ش، ي، ء. وتوجد هذه الحروف في كلمة “شاء” هو الفعل الماضي من “الشيء”.[3] ومن كلمة “الإرادة” اشتق فعل أراد. [4] ولا فرق بين المصدر والفعل في المعنى، إلا أن الأفعال مرتبطة بالأزمنة. لذا فمعنى “شاء” أوجد، ومعنى “أراد” طلب.
كما أن لفعل “شاء” مصدر ميمي وهو “المشيئة” وهذه الكلمة لم تذكر في القرآن الكريم. وذكرت كلمة “شيء” بصيغة الجمع 237 مرة. والمشيئة مع الميم في أولها والتاء المربوطة في آخرها مصدر على وزن “مفعلة” وهو شاذ.[5]
و”المشيئة” التي تتناولها الكتب العقائدية استعملتها بمعنى “الإرادة” بلا أي دليل يُستند عليه. ولذلك قالوا إن فعل “شاء” بمعنى أراد لأن مصدره المشيئة. بالرغم من قول المحققين بأن المصدر الميمي مصدر بمعنى الإسم لا مصدر[6] تشتق منه الأفعال من أجل ذلك لا يقال أن شاء بمعنى أراد؛ انطلاقا من كلمة “المشيئة”. واللغويون قد أخطأوا في إعطاء كلمة المشيئة معنى الإرادة، ثم ازداد الخطأ عند ما أُعطي نفس المعنى لفعل “شاء”. وبهذا أصبح الكثير من الآيات القرآنية غير مفهومة، وانقطعت بعض الآيات عن متعلقاتها.
وفي هذا الموضوع نحاول التوضيح معنى فعلي «أراد» و «شاء» بحول الله تعالى، كما سنلفت النظر إلى الأخطاء التي وقع فيها المفسرون والمتكلمون.
الإرادة، طلب حصول شيء. قال الله تعالى: « يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» (النساء، 4/26). ونحن نرى أن الناس قلما اهتدوا وتابوا مع وجود إرادة الله تعالى هدايتهم. يقول الله تعالى: « وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ» (يوسف، 12/103).
إنّ الذين لا يلقون الاهتمام لأوامر الله، ويجعلونها وراءهم ظهريا، يتمنون أن ينجرف المؤمنون في تيارهم فيكونون سواءً. وهذا يعني أنّ إرادتهم على العكس من إرادة الله تعالى. انظر إلى قوله تعالى: « وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا» (النساء، 4/27). وفي آية أخرى يقول الله تعالى: « يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ » (الصاف، 61/8).
خلاصة القول إنه من الممكن أن تكون إرادة الإنسان على عكس إرادة الله تعالى. وليس الطلب كالفعل. والله تعالى يفعل ما يريد. فقال تعالى: «إن ربك فعال لما يريد» (هود، 11/107). «إن الله يحكم ما يريد» (المائدة، 5/1). إذا أراد الله تعالى أن يفعل ما يريد إنما يقول له كن فيكون. قال الله تعالى: «إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون» (يس، 36/82).
وقد أعطى الله تعالى للإنسان إرادة. ولكن إرادته محدودة بما أعطاه الله تعالى من القدرة والإمكان. وعليه أن يستعمل تلك القدرة والإمكان للخير. يقول الله تعالى: « مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا. وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا. كلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا» (الاسراء، 17/18-20).
وتحقق العمل الصالح مرتبط بما يبذله الإنسان من جهد. يقول الله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا » (الكهف، 18/30). «وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى» (النجم 53/39-40)
خلق الله كل شيء وبين مقاييسه ومقاديره. الإيمان والكفر، الحلال والحرام، الخير والشر، كلها بقدر الله تعالى. ونذكر هنا بعض الآيات المتعلقة بالقدر. قال الله تعالى: «وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً» (الفرقان، 25/2). «وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً» (الأحزاب، 33/38). «قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا» (الطلاق، 65/3). «وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى» (عبس، 80/19).
فالقدر هو تلك المقاييس والمقادير. والله هو الذي وضع مقياس/مقدار كل شيء، وهو سبحانه ويثيب أو يعذب على هذه المقادير. قال الله تعالى: «وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ» (الأنعام، 6/39).
وقد وضع الله القدر أي المقادير، وأمر أن تُراعى، ولم يجبر أحدا عليها. ووعد بأن يفتح الطريق لمن عمل صالحا ويسهل له عمله، وهذا إكرام من الله تعالى. قال الله تعالى: « إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى. فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى» (الليل، 92/4-7).
وكما أنه سبحانه يسهل طرق الهداية لمن سلك سبيلها، فإنه كذلك يشق على الذين بخلوا وكذبوا وتكبروا وأعرضوا عن سبل الهداية، وهذا كذلك إكرام من الله تعالى يمتحن به من يشاء ليهتدي. قال الله تعالى: « وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى. وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى» (الليل، 92/8-10).
ويقول الله تعالى عمن لا يهديه: «وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ» (البقرة، 2/264). «وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ» (المائدة، 5/108). « وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ » (البقرة، 2/258). « إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِب كَفَّار» (الزمر، 39/3). «إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّاب» (المؤمن، 40/28). «إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ لاَ يَهْدِيهِم اللّهُ» (النحل، 16/104).
ويقول الله تعالى عمن يهديهم: « وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ» (الرعد، 13/27). «وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ» (آل عمران، 3/101). «يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ » (المائدة، 5/16).
وما نراه في حياتنا اليومية ما هو إلا ترجمة عملية لما ورد في الآيات؛ فما من أحدٍ يطرق باب رحمة الله والهداية إلا ويجد المعونة والتوفيق، وما من أحد يتنكّب عن الحق ويعرض عنه إلا زاد ضلالا وانحرافا، وما هذه الحياة إلا امتحان يمتحن الله تعالى العباد كامتحان المدرس للطلاب _ ولله المثل الأعلى _. نحن نعرف أنَّ الطلاب ليسوا بواضعي قوانين، وما عليهم إلا أن يجتهدوا ويستعدوا لينجحوا في الامتحان. والمدرس الصالح يعطي للطالب المجتهد درجة جيدة، وينجحه في الامتحان. والله تعالى كذلك يمتحن _ وله المثل الأعلى _، وهو يضع القوانين، ويوجه الإنسان حسبما يصلحه في دنياه وآخرته.
«أراد» الشيء بمعنى طلبه. و«شاء» شيئاً بمعنى فعله. وكلمة «الشيء» تطلق على كل شيء. كما يقال على «الله» شيء. قال الله تعالى: «قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً، قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ» (الأنعام 6/ 19).
وفعل «شاء» يُفسر على حسب مفعوله. والله فاعل كل شيء، لأنه لو كان الفاعل فيه الله فهو خالق ما أراد، وإذا كان الفاعل إنسانا ففعله سواء كان شرا أم خيرا يتحقق بمشيئة الله تعالى. قال الله تعالى: « وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ» (يونس، 10/99).
ويغيب هذا المعنى لو فسرنا «شاء» بـ «أراد». وعندها تُفهم الآية خطأ، أي أن الله تعالى لا يريد أن يهتدي بعض الناس. ونضرب على ذلك ثلاثة أمثال:
الآية الرابعة من سورة إبراهيم: قال الله تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»
ونجد هذه الآية في معظم التفاسير ومعاني القرآن الكريم قد فسرت كالتالي: أنه يرسل إليهم رسلاً منهم بلغاتهم ليفهموا عنهم ما يريدون وما أرسلوا به إليهم، «فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ» أي: بعد البيان وإقامة الحجة عليهم يضل الله تعالى من يشاء عن وجه الهدى، ويهدي من يشاء إلى الحق، «وَهُوَ الْعَزِيزُ» الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، «الحكيم» في أفعاله، فيضل من يستحق الإضلال، ويهدي من هو أهل لذلك.
وقد ذُكرت فيها مضارع «شاء» وفسر بـ «أراد» فأصبح المعنى غير مفهوم. إذا كان الله تعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء فلماذا أرسل الرسل بلسان قومهم ليبين لهم؟ وما الفائدة في بيان الرسل لقومهم بلسانهم؟ وهل هذا المعنى المبهم يليق أن يكون كلام الله تعالى؟ وهل يجوز أن تُفَسَر الآيات بما يخالف بعضها بعضا؟
والذين يفسرون «شاء» بـ «أراد» كان عليهم أن يُرجعوا ضمير «شاء» على «مَن» وليس على لفظ الجلالة، وبهذا لم يفسد التناسق في الآية. لأن لفظ «من» في «من يشاء» قريب من الضمير، أما لفظ الجلالة «الله» فبعيد. لذا لا بد من قرينة ليعود الضمير إلى لفظ الجلالة «الله». ولا توجد القرينة هنا فلم يبقَ إلا أن يعود الضمير إلى لفظ «من» القريب. فيكون معنى الآية كالتالي: أنه يرسل إليهم رسلا منهم بلغاتهم ليفهموا عنهم ما يريدون وما أرسلوا به إليهم، «فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ» أي: بعد البيان وإقامة الحجة عليهم يَضِل من يختار الضلالة، ويهدي من يختار الهداية إلى الحق. وهو العزيز الحكيم.
ومثل هذا المعنى يحفظ التناسق في الآية، وتراعى فيه العلاقات الثنائية بين الآيات. كما بينا سابقا فإن إرادة الإنسان وحدها لا تكفي لأن يصبح مسلما. فلا بد من بذل الجهد طبقا للإرادة. ولو قلنا أن «يشاء» بمعنى يريد لم يفهم منه ضرورة بذل الجهد.
وكثير من الذين وقعوا في هذا الخطأ يدّعون أنهم على مذهب الماتريدي. لكن أبا منصور الماتريدي المؤسس لهذا المذهب يفسر الآية الرابعة من سورة إبراهيم كالتالي:
“وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء” (أي يضل الله من آثر سبب الضلال و يهدي من آثر سبب الهداية).
ويقول الماتريدي: و قال قائلون: فيضلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء، هذا حكم الله أن يضل المكذبين و يهدي المصدقين لكن الوجه فيه ما ذكرنا بدءً أنه يضل من آثر سبب الضلال ويهدي من يشاء أي من آثر سبب الاهتداء.[7]
وحين فسر الماتريدي «شاء» المذكورة في الآية الرابعة بـ «رجح» يحتمل أنه نظر إلى الآية الثالثة من تلك السورة بقوله الله تعالى: «الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَـئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ».
والماتريدي هو الذي قال في تأويل قوله تعالى « الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ » أي آثروا واختاروا الحياة الدنيا على الآخرة…
وعلى مذهب الماتريدي، فإن الكسب للعبد. أي أنه يبذل الجهد فقط. أما النتيجة فإنها تتوقف على مشيئة الله تعالى. وبمعنى آخر أن العبد مكتسب لأفعاله والله تعالى خالق لها. والعبد يكسب الهداية أو الضلالة والله تعالى يخلقها فيه.
والإمام الماتريدي توفي سنة 333 هجرية / 944 ميلادية. وهو الذي قال إنّ «شاء» بمعنى أوجد. ولم يتحدث عن «الإرادة». وهو ما يدل على أن التغيير في معنى هذه الكلمة حدث بعد ذلك التاريخ، لأن هذا التفسير أقدم المراجع التي تتواجد بين أيدينا.
الآية 148 والآية 149 من سورة الأنعام: قال الله تعالى: «سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا ءَابَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا، قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا، إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ. قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ».
قيل في معنى الآية إن المشركين قالوا لو شاء (أراد) الله ما أشركنا نحن ولا آباؤنا… ثم قال الله تعالى ولو شاء (أراد) الله لهداكم.[8] ففي هذه الحالة كان قول الله تصديقا لقولهم. فلماذا قال إنهم كذّابون وجاهلون ولا يتبعون إلا الظن؟ « كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْهَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّاالظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ».
ونقارن هذا مع هذه الآية: قال الله تعالى: «يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ » (النساء، 4/26).
تدل هذه الآية على أن الله تعالى يريد أن يهدي جميع الناس. لذا أرسل الله تعالى رسلا مبشرين ومنذرين. ولا يمكن القول بأن الله تعالى أراد هداية الناس في الآية، وفي آية أخرى منعهم عن الهدى.
ولو فسرنا «شاء» بـ «أوجد» لكان المعنى صحيحا ولم يبق أي إشكال. وشاء بمعنى أوجد الهداية، لأن «الشيء» بمعنى «الهداية». فيكون معنى قول المشركين: « لَوْ شَاءَ اللَّهُ ( أوجد الله فينا الإيمان) مَا أَشْرَكْنَا وَلَا ءَابَاؤُنَا » لو أن الله تعالى أوجد الهداية فينا ما أشركنا نحن ولا آباؤنا.
يعنى لو خلق الله فينا الهداية كما يخلق الله تعالى الموجودات. غير أنه لم يكن من سنة الله تعالى أن يجبر الناس على الإيمان بل خلقهم وأعطاهم حرية الإختيار، لذا استحق من آمن الثواب كما استحق من كفر العذاب. وإلا لخلق اللهُ سبحانه الإيمانَ في قلوب الناس جميعاً فأصبحوا بذلك أمةً واحدة، و عندئذ لا تصلح الدنيا لتكون دار ابتلاء وامتحان. ومن أجل ذلك قلنا في تفسير الآية 149 من سورة الأنعام: لو كان الله تعالى يخلق الإيمان فيكم لخلقه في قلوبكم جميعاً. فأصبحتم أمة واحدة. كما قال الله تعالى: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» (هود، 11/118، 119).
والمشركون يعرفون جيدا أنّ الهداية مرتبطة بإرادة الإنسان. فلو عزموا لآمنوا، لذا كان كلامهم كذبا. قال الله تعالى: « كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا».
فدعا الله المشركين بأن يأتوا ببرهانهم إن كانوا صادقين فيما ادعوا؛ فقال تعالى: « قُلْهَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا » فلعدم وجود العلم عندهم يعتمدون على الظن وما تهوى أنفسهم قال تعالى: « إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّاالظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ».
وفي آية أخرى يقول الله تعالى عن المشركين: « وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِنشَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَفَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ». (النحل، 16/35).
وهذه الآيات توضح كل شيء: « وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَاعَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ وَلَكِنَّأَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ. وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّاشَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَالْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ» (الأنعام، 6/111-112).
وقال تعالى: « أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاء اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا» (الرعد، 13/31).
قال الله تعالى: «وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ. فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ. إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ. لِمَن شَاء مِنكُمْ أَنيَسْتَقِيمَ. وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ» (التكوير، 81/25-29). وقد فسروها على النحو التالي: «وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ» أي: وما هذا القرآن بقول شيطان رجيم، أي: لا يقدر على حمله، ولا يريده، ولا ينبغي له. وقوله تعالى: «فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ» ؟ أي: فأين تذهب عقولكم في تكذيبكم بهذا القرآن، مع ظهوره ووضوحه، وبيان كونه هداية للجميع. وقوله: «إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ » أي: هذا القرآن ذكر لجميع الناس، يتذكرون به ويتعظون، «لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ» أي: من أراد الهداية فعليه بهذا القرآن، فإنه منجاةٌ له وهداية، ولا هداية فيما سواه، «وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ» أي: ليست المشيئة موكولة إليكم، فمن شاء اهتدى ومن شاء ضل، بل ذلك كله تابع لمشيئة الله عز وجل رب العالمين.[9] وهكذا في كل التفاسير باختلاف يسير.
والتناقض فيها ظاهر، وهو أن الله تعالى يدعونا إلى القرآن على أنه «تذكرة لمن شاء منكم أن يستقيم»، وفي نفس الوقت يقول «وما تشاؤون إلا أن يشاء الله» أي لا إرادة لكم إلا إن أردت أنا. فما فائدة الدعوة ما لم يكن للإنسان إرادة ؟ وهل يجوز أن يكون بين كلام الله تضاد؟ ومنشأ هذا التضاد هو تفسير كلمة «شاء» بـ «أراد». لو فسرنا «شاء» بمعناها الصحيح وهو «إيجاد الشيء» كان معنى الآية كالتالي: وما هذا القرآن بقول شيطان رجيم، فأين تذهبون عنه، وهذا القرآن ذكر لجميع الناس، يتذكرون به ويتعظون، «لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ» أي: من بذل جهده للإستقامة، ولا تحصلون عليه حتى يوجده الله تعالى.
كسب الإنسان متوقف على ما يمنحه الله من القدرة والإستطاعة. قال الله تعالى: « وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ» (الكهف، 18/23-24).
من الممكن أن لا يصل الإنسان إلى النتيجة من أعماله في الدنيا. قال الله تعالى: «مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً. وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً. كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً» (الاسراء، 17/18-20).
أما موضوع الدين ليس كذلك. والمجاهد فيه يهتدي إلى بغيته. قال الله تعالى: « وَالَّذِينَجَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ» (العنكبوت، 29/69).
ولا تتحقق الهداية أو الضلالة إلا بإذنه تعالى لأنه هو الذي خلقهما، ولا يتصور عاقل أن شيئا يحدث في هذا الوجود رغما عن الله جل وعلا. قال الله تعالى: « وَمَاكَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَعَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ» (يونس، 10/100).
ولا يكون إلا ما خلق الله، فهو سبحانه المتفرد في الخلق والإيجاد فلا ينازعه في ذلك أحد. قال النبي صلى الله عليه وسلم: « ماشاء الله كان وما لم يشأ لم يكن»[10] وهذا الحديث هو تفسيرٌ لهذه الآية: «إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا» (الإنسان، 76/29-30).
والله تعالى يضع القوانين ويعطي القدرة والإستطاعة، وهو سبحانه من وضع النظام وبين القواعد والمقاييس. فمن أراد أن يفوز بتحقيق شيء أو الوصول إلى غاية، فما عليه إلا أن يعمل حسب تلك القوانين التي وضعها الله تعالى وإلا باء بالفشل. فمن أراد الحج إلى بيت الله الحرام فعليه أن يعمد إلى ما يوصله إلى هناك، وأن يتخذ من الأسباب ما يمكنه من الوصول والرجوع إلى بلده بعد حجه، وإن لم يعمل حسب القوانين والسنن فإنه لن يصل وإن توفرت لديه الإرادة. إنّ الدعاء يدلُّ على إرادة الشيء، ولا يمكن تحقيق الهدف بالدعاء إذا لم يصاحبه بذل المجهود. قال الله تعالى: «َفمِنَالنَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِمِنْ خَلَاقٍ.وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَاءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَالنَّار.أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّاكَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ» (البقرة، 2/200-202).
الإرادة هي التي أعطاها الله تعالى للإنسان حين خلقه ليميزه عن غيره من المخلوقات غير المكلفة (المسيَّرة). ولا يمكن أن توضع الحدودُ أمام إرادة الإنسان. فربما أراد الإنسان أن يصبح طيرا أو أسدا، أو أن يتجول بين الكائنات وأن يكون أغنى وأقوى رجل في العالم، وربما يتمنى أن يصبح إلها. ولا يتحقق له من إرادته إلا القليل. وما يتحقق له محدود بقدرته وإمكاناته وما يبذله من جهد.
ولا تكفي الإرادة وحدها لإنجاز الهدف، كما أنه لا يمكن أن يصبح الشخص مسلما بإرادةِ أن يكون مسلما، فلا يكون هو مصليا بإرادة الصلاة. فلا بد له من بذل الجهد والقيام بها فعلا.
كذلك لا يتحقق الهدف بإرادة الله تعالى دون المشيئة، والله تعالى يريد من الناس أن يهتدوا، ولكنهم لا يهتدون. قال الله تعالى: «يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَمِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» (النساء، 4/26).
«إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّاللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُلَكُمْ» (الزمر، 39/7).
« يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ » (التوبة، 9/96).
« إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ» (الروم، 30/45).
« إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» (الشورى، 42/40).
ونحن نرى أن الدنيا مليئة بالكافرين والظالمين مع أن الله تعالى لا يحبهم. ولذا نقول إن هذه الآيات تدل على أنَّ هناك أشياءً تحدث في هذا الكون ما أرادها الله تعالى ولا يحبها ولا يرضى بها. ولأن كل شيء يحدث في هذا الكون يكون بأمره وبعد إذنه فإن الله تعالى يعطي الإمكانية لحصوله. ولا يتصور عاقل أن شيئاً في هذا الكون _ خيراً كان أم شرا ً_ يحصل رغما عن الله تعالى ودون إذنه.
شاء مصدره الشيء، المصدر هو الأصل الذي يشتق منه الفعل وبقية الصيغ. لذا لا فرق بين المصدر والفعل في المعنى، إلا أن الأفعال مرتبطه بالأزمنة وهذا هو الفرق الوحيد. لذا «الشيء» بمعنى الموجود، و”شاء” بمعنى أوجد.
كما أن لفعل “شاء” مصدر ميمي “المشيئة”. والمشيئة مع الميم في أولها والتاء المربوطة في آخرها مصدر على وزن “مفعلة” من «الشيء». ومعناه الشيء أي الموجود. ومع ذلك فقد فُسِّرت بمعنى الإرادة، ثم قيل نفس المعنى في «شاء» أي أن شاء بمعنى أراد. مع أنه لا يوجد ما يُستند عليه. والمصدر الميمي في الأصل ليس مصدرا، إنما هو اسم بمعنى المصدر. لأن المصدر سماعي، أما المصدر الميمي فقياسي. والسماعي هو الموجود في بناء اللغة، أما القياسي فيشتق على حسب القواعد. والسماعي كالمال الطبيعي، والقياسي كبضاعة مصنوعة. والأصل هو ما كان طبيعيا ليس صناعيا. لذا لا يفسر الفعل «شاء» نظرا إلى المصدر الميمي «المشيئة» وكل ما حصل من الأخطاء سببه أن المتخصصين في اللغة العربية لم يستقيموا في توضيح معاني الكلمات.
ويمكن استعمال كلمة «الشيء» في اللغة العربية بإطلاقها على كل موجود. وكما أنها تستعمل مصدرا. بمعنى «فعل الشيء، صنع الشيء» يقصد بالشيء نتيجة الفعل الذي يقام به. وشاء ذلك بمعنى فعل الشيء، وصنع الشيء. وهكذا يقال في كل فعل.
ويقال «شيء» في العربية وهي تفيد معنى معينا كأي كلمة في الجملة. لذا تفسر «شيء» حسب ارتباط الكلام. أما في اللغة التركية فالأمر مختلف، حيث يقال «شيء» عند الإضطرار في الكلام أي عندما لا يعرف المتكلم ماذا سيقول.
علم اللغة علم نقلي، فهو تابع للقواعد كبقية العلوم الآخرى مثل علم الرواية. فيكون ما روي في اللغة صحيح وحسن وضعيف وموضوع، كما هو الحال في علم الحديث.[11] وعلماء اللغة الذين يعطون للكلمة معناً معينا فعليهم التثبت من عملهم هذا. والقرآن الكريم هو المصدر الموثق لمعرفة معنى الكلمات التي ذكرت فيه، ثم الأحاديث الصحيحة ثم الشعر العربي الجاهلي. وكلمة «شيء» التي ذكرت في القرآن الكريم جاءت بمعنى الشيء الذي سيكون أو الشيء الكائن. لذا يجب أن يكون «شاء» بمعنى أوجد.
وتعبير «إن شاء الله» يستعمل كثيرا، بمعنى إن صنع الله. ولا يمكن أن يكون معناه إن أراد الله. لأن المعنى المقصود عند قائلها هو «إن أراد الله وفعل».
ومن الممكن أن نقول إن معنى شاء أراد ؛ لأن كل الموجودات تعتمد على إرادة واحدة. وهذا التحريف في المعنى الذي لم يُنتبه إليه في البداية، كان سببا في إلغاء العلاقات بين الآيات وخلط الأذهان كما تولد منها الإشكالات الكلامية التي لا يوجد طريق لحلها حتى يومنا هذا.
يقول الراغب الأصفهاني (المتوفى. 425 الهجري) في مفرداته: «والمشيئة عند أكثر المتكلمين كالإرادة سواء» ولكنه لم يتحدث عن الأدلة التي اعتمد عليها المتكلمون. ويتحدث عن الأدلة الكثيرة التي يعتمد عليها بعض أهل الكلام الذين قالوا إن «شاء» بمعنى أوجد.
وهذا نص ما قاله الراغب الأصفهاني: «الشيء هو الذي يصح أن يعلم ويخبر عنه، وعند كثير من المتكلمين هو اسم مشترك المعنى إذا استعمل في الله وفي غيره، ويقع على الموجود والمعدوم. وعند بعضهم: الشيء عبارة عن الموجود».وأصله: مصدر شاء، وإذا وصف به تعالى فمعناه: شاء، وإذا وصف به غيره فمعناه المشيء، وعلى الثاني قوله تعالى: «قل الله خالق كل شيء» (الرعد، 13/16). فهذا على العموم بلا استثناء إذ كان الشيء ههنا مصدرا في معنى المفعول. وقوله: «قل أي شيء أكبر شهادة» (الأنعام، 9/19)، فهو بمعنى الفاعل كقوله: «تبارك الله أحسن الخالقين» (المؤمنون، 23/14).
والمشيئة عند أكثر المتكلمين كالإرادة سواء. وعند بعضهم: المشيئة في الأصل: إيجاد الشيء وإصابته، فالمشيئة من الله تعالى هي الإيجاد، ومن الناس هي الإصابة. والمشيئة من الله تقتضي وجود الشيء؛ ولذلك قيل: «ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن». والإرادة منه لا تقتضي وجود المراد لا محالة، ألا ترى أنه قال: «يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر» (البقرة، 2/185)، «وما الله يريد ظلما للعباد» (غافر، 40/31). ومعلوم أنه قد يحصل العسر والتظالم فيما بين الناس.
فهم قالوا؛ الفرق بين المشيئة والإرادة: من الممكن أن يكون للإنسان إرادة بدون إرادة الله. لأن الإنسان لا يريد أن يموت. والله تعالى يريد موته. ولكن لا يكون للإنسان مشيئة إلا أن يشاء الله. لقوله تعالى: «وما تشاءون إلا أن يشاء الله» (الإنسان، 76/30). وروي أنه لما نزل قوله تعالى: «لمن شاء منكم أن يستقيم» (التكوير، 82/28). قالوا إن الاستقامة تركت لنا، ولو بذلنا الجهد لاستقمنا وإلا فلا. فأنزل الله تعالى: « وما تشاءون إلا أن يشاء اللَّهُ». أي لا تصيبون بدون أن يخلق الله تعالى.
وقال بعضهم: كل الأمور وأفعال العباد بمشيئة الله تعالى؛ لذا اتفق الناس في أنه لا شيء إلا بمشيئة الله تعالى. ويدل على هذا قوله تعالى: « سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ» (الصافات، 32/102). وقوله تعالى: «سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا» (الكهف، 18/69). وقوله تعالى: « إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ » (هود، 11/33). « ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ » (يوسف، 12/99). « قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ » (الأعراف، 7/188). « وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ » (الأعراف، 7/89). « وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا. إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ » (الكهف، 18/23-24).
وننقل قول محمد يعقوب الفيروز أبادي (المتوفى. 817/1415) في بصائره: إن المشيئة بمعنى الإرادة بدون أن يعتمد على أي دليل بالرغم أنه نقل عبارات المفردات بعينها. ولم يتحدث عن كلمة «الشيء».
قال ابن منظور في لسان العرب: إن المشيئة بمعنى الإرادة. وهذا ما قاله ابن منظور: «شيأ: الـمَشِيئةُ: الإِرادة. شِئْتُ الشيءَ أَشاؤُه شَيئاً ومَشِيئةًومَشاءة ومَشايةً: أَرَدْتُه» ثم يحكي أن يهوديا أتى النبي فقال إنكم تنذرون وتشركون تقولون ما شاء الله وشئت؛ فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقولوا ما شاء الله ثم شئت.
ويكون معنى الحديث على رأي ابن منظور: أن يهوديا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال إنكم تنذرون وتشركون وتقولون ما شاء (أراد) الله وأردت أنا. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقولوا: شاء الله ثم شئت.
ثم يقول ابن منظور: المشيئة هي الإرادة، وقد شِئتُ الشيءَ أَشاؤُه وإِنما فَرَق بين قوله ما شاءَ اللّهُ وشِئتُ وما شاءَ اللّهُ ثم شِئتُ لأَن الواو تفيد الجمع دون الترتيب وثم تجمع وترتِب فمع الواو يكون قد جمع بَيْنَ اللّهِ وبينه في المَشِيئةِ ومَع ثُمَّ يكون قد قَدَّمَ مشِيئَة اللّهِ على مَشِيئتِه.
ومن المعلوم أن الله تعالى لا يغفر الشرك. وهل يعقل أن يغلط النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموضوع المهم ويصححه يهودي…؟! وهو شيء لا يمكن قبوله. وفضلا على ذلك وجود التناقض و التضاد في كلام ابن منظور.
إذا كانت المشيئة بمعنى الإرادة، فإن معنى عبارة «ما شاء الله وشئت» يكون ما أراد الله وأنا أردت. ويدل هذا الكلام على حب المضاهاة لإرادة الله تعالى لأنها معروفة في القرآن الكريم. فهل هذا هو المطلوب من المسلمين.؟ وحين خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون إرادة الله تعالى أنذرهم الله تعالى بقوله: « مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَلَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَاوَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ » (الأنفال، 8/67).
وإذا قلنا إن المشيئة بمعنى الإيجاد وهذا هو المعنى الصحيح عندنا، فمن الممكن أن يفهم «ما شاء الله وشئت» أوجد الله تعالى وأنا أوجدت. أي أنه دخل في السباق مع الله تعالى في الخلق والإيجاد؛ هو شرك. ولا يجوز للمسلم أن يتلفظ بمثل هذا الكلام.
و«ما شاء الله ثم شئت» هذه العبارة التي يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها، لا يمكن أن يكون معناه؛ اراد الله ثم اردت أنا. بل معناها أمر الله ثم امتثلت أنا. لأن إرادة الله تعرف من أوامره ونواهيه.
إذن ابن منظور كان يحقق الكلمات بدقة عالية ويراعي استعمالاتها المختلفة، ولكنه لم يفعل ذلك عند كلمة «شيء». فهو في البداية يقول إن الشيء بمعنى الإرادة ثم يقول الشيء معلوم. فبهذا شوش الأذهان وناقض نفسه. ولم يعرف الدلالة حين قال إن الشيء معلوم. هل هو يريد بهذا الكلام الشيء بمعنى الإرادة أم يقصد به الشيء الذي يعرفه الناس؟.
ويقول مرتضى الزبيدي (المتوفى. 1205/1790) في تاج العروس: أن أكثر المتكلمين لا يرون فرقا بين المشيئة والإرادة بالرغم من اختلاف أصليهما. لأن المشيئة في اللغة هو الإيجاد. أما الإرادة هي الطلب. وقد أشار شيخنا الفيروز أبادي إلى ذلك نقلا من كتب الرازي. ولا داعي لسرد كلام الفيروز أبادي هنا لأنه يحتاج لمكان أوسع.[12]
تاج العروس قاموس ذو قيمة. مؤلفه الزبيدي.ألا نسأله أين يفسر كلمة مشيئة إذا لم يفسرها في قاموسه ؟ ونفهم من ذلك أن اللغويين ساعدوا في تحريف معاني الكلمات.
[1]أحمد بن علي بن مسعود، مراحل الأرواح، ص. 4-8. محمد سعيد اصبر، بلال جنيدي. الشامل، معجم في علوم اللغات والمصطلحات، ص. 857. الطبعة الثانية، بيروت 1985
[4] الإرادة من باب أفعال مصدر أراد وهي في الأصل ارود والواو مفتوحة وما قبلها ساكن فنقلت حركتها إلى ما قبلها فأصبحت أراد. والإرادة أصل الإرواد، حذفت الواو وأضيف في آخرها التاء المربوطة عوضا عن الواو المحذوفة.
[5] محمد سعيد اصبر، بلال جنيدي، المرجع السابق، ص. 945.
[7] تأويلات القرآن لأبي منصور محمد بن محمد الماتريدي السمرقندي (المتوفى. 333الهجري / 944 الميلادي) تحقيق خديجة بوينوقالين بإشراف بكر توبال أوغلو أسطنبول، 2006. 7/458.
[8] معني القرآن الكريم بالتركية لعمر نصوحي بلمن، 1997.
[9] تفسير ابن كثير.
[10]سنن أبي داود، الأدب، 100.
[11] وهذا التثبيت لموسى علق، ونشكره على هذا العمل القيم الذي ساعد في توضيح الموضوع «المشيئة والارادة».
[12] تاج العروس مادة: ش ي ء.
جزاكم الله كل خير لقد وجدت الاجابه الكافيه عن الموضوع وتغير فهمي لايات الله تعالى