السؤال:
هل البنت التي بلغت في سن التاسعة هل هي مكلفة بالحجاب؟
الجواب:
في البداية علينا أن نفرق بين ما تفرضه العادات والتقاليد الموروثة من الآباء والأجداد وبين ما يفرضه الله تعالى في كتابه؛ ذلك أن ما يتعلق بالتراث فهو متغير بتغير ثقافة المجتمعات ويشوبه اللغط كما تغلب عليه الأهواء والآراء، أما ما يتعلق بدين الله تعالى فهو ثابت ويخضع لمعايير الحق والهدى.
وإذا طبقنا هذا الكلام على السؤال موضع الشاهد – حجاب الفتاة عند بلوغها المحيض – نجده متعلقًا بالتراث أكثر من تعلقه بالدين؛ ذلك لأن كثيرًا من المذاهب جعلت سن التكليف هو سن بلوغ الحلم واستدلوا بقوله تعالى:
﴿وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ النّور (59)
ولذلك أوجبوا على الفتاة ارتداء الحجاب في سن التاسعة إذا بلغت.
وفي الحقيقة وبناء على ذلك فهناك بعض التساؤلات أو بمعنى أدق الافتراضات المترتبة على قولهم هذا ألا وهي، وجوب تكليف تلك الفتاة من سن التاسعة بأداء كافة التكاليف الشرعية بدأ من الصلاة وصوم رمضان كاملًا وكذلك الزكاة أو الحج، وكذلك يحق لها أن تتزوج ممن تريد بما أنها بالغة عاقلة، هذا بالإضافة إلى إقامة الحد عليها لو ارتكبت أحد الحدود المنهي عنها وهي في هذه السن، وأخيرًا يحق لنا الحكم عليها بالكفر أو العصيان إن تركت شيئًا من تلك الفروض أو التنبؤ لها بدخولها النار مع العصاة والمكذبين إن ماتت بعد بلوغها بفترة قصيرة وهي مازالت على معصيتها. أليس كذلك؟
فهل الطفل ذو التسعة أعوام يستطيع أن يفعل كل ذلك ويختار الصواب من الخطأ وحده وهو لا يقدر على تحديد مصيره وأهدافه في الحياة، حتى نحدد له نحن مصيره في الآخرة!
فلو سلمنا بذلك لنسبنا الظلم إلى رب العالمين إذ كيف يكلف الإنسان فوق إمكاناته العقلية والجسدية وهو القائل:
﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ البقرة (286)؟!
والتكليف ينظر فيه إلى درجة إدراك الشخص المكلف ليس فقط على أعماله وإنما على الإخلاص فيها وإدراك عواقبها، وغالبية الأطفال يصلون ويصومون مع أهليهم حتى دون وصول سن البلوغ ولكنه يعد من قبيل التقليد أو الاعتياد ولا ينم عن اقتناع وخشوع. فهذا الأمر يحتاج إلى وعي للفهم كما يحتاج إلى إرادة في اتخاذ القرار بالعمل أو الترك، وخلاف ذلك يُعد إجبارًا للطفل وليس اختيارًا حقيقيًا قائمًا على أساس إدراك الذكرى بالقلب وإلقاء السمع:
﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ ق (37)
أما بالنسبة للرد على استدلالهم بقوله تعالى: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا..﴾ فيرد عليهم بأنه لو كانت الآية دليلًا على التكليف الذي يعني المحاسبة لقلنا بأن التكليف قد بدأ بالفعل قبل البلوغ وليس بعده! وذلك بدليل الآية التي قبلها مباشرة والتي تحدثت عن الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم وطالبت باستئذانهم في ثلاثة أوقات:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ..﴾ النّور (58)
فهل يعني ذلك أن الطفل قبل بلوغه الحلم مكلف ومحاسب على أعماله؟!
نجد الجواب بالعودة إلى كتاب الله تعالى حين نبأنا العليم الخبير أن البلوغ له عدة مراحل يجب مراعاتها:
- فالبداية بمرحلة الطفولة وهي من المهد حتى بلوغ الحلم: ﴿وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ..﴾ ﴿وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا..﴾
- ومرحلة بلوغ النكاح والرشد:
﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ..﴾ النساء (6)
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ﴾ الأنبياء (51).
- وكذلك مرحلة بلوغ الأشد:
﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًاۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ يوسف (22)
﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُۚ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ، إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾ الإسراء (34)
- بالإضافة إلى مرحلة بلوغ السعي:
﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَىٰ..﴾ الصافات (102)
وهي المرحلة التي يستطيع الإنسان أن يختار ويحدد سعيه للآخرة مصداقًا لقوله تعالى:
﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾ الإسراء (19).
وهذه المراحل يشترك فيها الذكر والأنثى على حد سواء (ولكل منهما علامات بلوغه) وكل مرحلة من تلك المراحل لها خصوصيتها وتعاليمها الخاصة، ومن حكمة أحسن الخالقين وأحكم الحاكمين أن جعل مرحلة الطفولة تستغرق فترة طويلة عند بني آدم بخلاف بقية المخلوقات التي تنتهي خلال شهور؛ لكونها تُعد أهم مرحلة في حياة الإنسان وتكوين الوعي وتوجيه الإرادة إلى الصواب.
فإن تحدثنا عن الأخلاق والقيم فقد علمنا العليم الحكيم أنها تبدأ منذ الصغر حتى قبل بلوغ الحلم، ونجد لها من الأوامر والنواهي ما يناسب تلك المرحلة باعتبارها النواة الأولى للنبتة الصالحة، ولذا نجده سبحانه وتعالى يوجه الآباء إلى تعليمهم ضرورة العمل بآداب الاستئذان ثلاث مرات داخل البيت الواحد ومن ثم يمارس السلوك على نطاق أوسع خارج البيت من غض البصر، ثم يأتي سن بلوغ الحلم الذي هو علامة على اكتمال النمو الجسدي وتشكيل غريزة الذكر والأنثى المتعلقة بالشهوة تجاه الطرف الآخر ولذلك أمر بالاستئذان في كل الأوقات.
ثم ذكر تعالى مرحلة بلوغ النكاح وألحقها بالرشد في قوله:
﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ..﴾
مع ملاحظة أنه حتى مع بلوغ الإنسان سن النكاح وبالرغم من أنه لم يعد طفلًا إلا أنه لا تُسلم إليه أمواله قبل وضعه في اختبار يبين رشده؛ حيث إن إدارة المال ومعرفة وجوه إنفاقه مترتبة على بلوغ الرشد أي القدرة على اتخاذ القرار، وكذلك يدل على أن مجرد بلوغ الطفل الحلم لا يؤهله للنكاح – كما ادعى المفترون على رسول الله زواجه ممن بلغت المحيض وهي في التاسعة من عمرها ﴿حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ﴾.
وبناء على ذلك فإن التوجيه الأخلاقي والتربية الدينية تبدأ منذ الطفولة المبكرة قبل بلوغ الحلم وتتدرج وتتكامل حتى بلوغ الحلم إلى بلوغ الأشد، فالصفات الطيبة ومكارم الأخلاق التي تغرس في مرحلة الطفولة تثمر وتؤتي أكلها عند بلوغ الرشد، وهنا يظهر في الشخص جهد الوالدين وتربيتهما الصالحة الذين وجههم الله سبحانه وتعالى إلى ضرورة الصبر في التربية:
﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَاۖ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًاۖ نَحْنُ نَرْزُقُكَ، وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ﴾ طه (132)
ويحين وقت دعاء الأولاد لأبويهما بسبب ذلك الجهد:
﴿وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ الإسراء (24)
وبالتالي فإن مسألة الحجاب لمن بلغت المحيض هو أمر مطلوب على أن يتم بشكل تدريجي؛ حيث إن الفتاة التي ما زالت حديثة السن يحثها الأبوان على بداية تغيير نمط لباسها إلى اللباس الذي لا يظهر ملامح جسدها شيئًا فشيئًا حتى تصل إلى الحجاب إلى أن تبلغ الفتاة أشدها وتؤتى من العلم ما يجعلها رشيدة وتستطيع أن تدرك قيمة الزي الشرعي في الحفاظ عليها وصونها، وذلك في الوقت الذي تختاره هي دون إجبار من أحد لأنها حينها ستدرك الرشد من الغي:
﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ البقرة (256)
وختامًا:
فإن توجيه جميع الأبناء والبنات من الأمور الواجبة على الوالدين، وهو ما فعله الأنبياء والصالحون كما قيل على لسان إبراهيم الخليل وحفيده يعقوب عليهما السلام:
﴿وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ البقرة (132)
وكما فعل لقمان الحكيم:
﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ، إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ لقمان (17).
وخاصة أن الفتيات حديثات السن لا يدركن بالضبط الحكمة من فرض الحجاب عليهن، فيعلمونهن أنه فرض لحفظهن وصونهن وأنه لمصلحتهن وليس ضدها كما يصوره بعض الجاهلين، على أن يتم ذلك دون إجبار أو إرغامها على ارتدائه:
﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ﴾ الغاشية (22)
ويكون عن طريق التحبيب والترغيب والبعد عن أسلوب الترهيب امتثالًا لأمره جَلَّ وعَلَا:
﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ النحل (125).
أما عن الحساب فهو لله تعالى وليس لنا من أمره شيء:
﴿إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ﴾ الشعراء (113)
ومهما بلغ حرص الآباء على أولادهم فلا يملكون لهم سوى تقديم الأسوة الحسنة والبلاغ:
﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ﴾ الرعد (40)
وأما الهدى والضلال فهو اختيار الإنسان نفسه مصداقًا لقوله تعالى:
﴿مَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا، وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ، وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ الإسراء (15)
وقف السليمانية/ مركز بحوث الدين والفطرة
الموقع: حبل الله www.hablullah.com
الباحثة: شيماء أبو زيد