السؤال:
لا أعرف كيف أصيغ السؤال ولكن سأحاول، يصل تعداد المسلمين إلى مليار ونصف أو يزيد، وغالبيتهم ورثوا الإسلام عن آبائهم وأجدادهم، أما في الجهة الأخرى من العالم نجد غالبيتهم أيضاً قد ورثوا الإلحاد أو المسيحية أو غيرها من الديانات عمن سبقهم، فما مصير كل منهم؟ وهل يُعتبر من الظلم لهم أن آبائهم كانوا على غير الإسلام فلم يسلموا ، الفضل في تربية الأبناء وأجرها موجود فإذا ولد هذا الطفل بغير بيئته فهل سيكبر على نفس الأخلاق والإسلام؟
وسؤال آخر إذا تعرض شخص ما للشبهات ثم كفر ثم مات لحادث عارض مثلاً “سكتة دماغية أو قلبية”، فهل سيكون مصيره النار؟ طيب إذا لم يتعرض لهذا الحادث ثم راجع نفسه وآمن فهل سيكون مصيره الجنة؟. السؤال بشكل مختصر هل حياة الإنسان على الأرض كافية لتحديد مصيره الأبدي مع وجود اختلافات في أعمار الناس وأماكنهم وزمانهم… إلخ؟.
الجواب:
لقد بعث الله تعالى الرسل مبشرين ومنذرين [النساء: 165]، وما من أمة إلا خلا فيها نذير [فاطر: 24]، وقد كانت دعوة الرسل مثيرة للغاية، لأنهم ذكروا ما في الفطرة [الروم: 30]، أي أنهم دعوا إلى المبادئ العالمية الصحيحة التي يستلهمها الإنسان بحكم طبيعته التي خلقه الله تعالى عليها وبفعل ملاحظاته في نفسه والكون من حوله، وبمعنى آخر فإن دعوتهم تلامس الطبيعة البشرية التي تفرق بين الخير فتستحسنه وبين الشر فتستقبحه، قال الله تعالى:
﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ [الشمس: 7-8]
وبالرغم من وجود النذير في كل أمة إلا أنه من الممكن أن لا تصل دعوة الرسل إلى جميع الناس لأسباب شتى ومنها عدم قدرة المبلِّغ على إقامة الحجة على المبلَّغ، وبهذا ينقسم الناس إلى مجموعتين؛ مجموعة لم تصلهم دعوة الرسول أو النذير، وأخرى قد وصلت إليهم الدعوة.
المجموعة الأولى: الذين لم تبلغهم الدعوة:
من لم تبلغه دعوة رسول، فيكفيه أن يتبع الفطرة. واتباع الفطرة يتطلب عدم الإشراك بالله تعالى، أي أن يؤمن بأنه “لا إله إلا الله” قال الله تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 48]
حيث يصل الإنسان إلى حقيقة الله الواحد من خلال النظر في آيات الأنفس والآفاق، فانتظام الكون واتزانه يدل على الخالق الواحد المالك.
إن الكون مليء بالأدلة الدالة على وجود الله تعالى ووحدانيته، وهي منتشرة في الآفاق وفي الأنفس يراها الإنسان منذ طفولته فلا يبقى عنده شك بوجود الله ووحدانيته. يقول الله تعالى:
﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ، أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [فصلت: 53]
أمام هذه الحقائق فلا يوجد عند المشركين أي دليل يبرر شركهم. قال الله تعالى:
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ [المائدة: 104]
﴿أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ﴾ [يونس: 66]
ويبرهن القرآن على فساد مبدأ الشرك بقوله تعالى:
﴿أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ. لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [الأنبياء: 21-22]
فالشرك رجس ونجس، والمتدبر المتبصر في آيات الله لا يقع فيه، لأن الله:
﴿وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [يونس: 100]
وعلى هذا فالشرك هو إثم لا يُغفر سواء بلغت الدعوة أصحابه أم لم تبلغهم.
لكن من لم تبلغه دعوة رسول لا يكون مسؤولا عما جاء به الرسول من التعاليم الدينية؛ لأن تكليفه بما لم يحط به علما مناقض لمبدأ التكليف ضمن وسع الإنسان وطاقته:
﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا﴾ [الطلاق: 7] .
المجموعة الثانية: الذين بلغتهم الدعوة:
وعلى من بلغته دعوة رسول من رُسل الله وجب عليه أولاً أن يتأكد من أنه مرسل من الله تعالى حقاً؛ لأن الله تعالى أرسل مع كل رسولٍ ما يصدق رسالته من الآيات / المعجزات. وقد درج المسلمون على إطلاق لفظ المعجزة على الآية لأن البشر لا يمكنهم الإتيان بمثلها. والذي يرى تلك المعجزة يعرف يقينا أنه مرسل من الله تعالى، ولما كانت معجزة النبي الخاتم هي الكتاب الذي جاء به (القرآن) فإنه مكَّن جميع الناس من مشاهدة الدليل على صدق نبوته حتى قيام الساعة ، ولذا يقول كل مسلم “أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده رسوله” بالرغم من أن من ولد بعد النبي لم يشاهده لكنه بالتأكيد شهد على معجزته الخالدة.
فكل من يتدبر القرآن بلغة نزوله أو حتى باللغات الأخرى التي ترجم إليها يصل إلى هذا اليقين. قال الله تعالى:
﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69]
ومن اتبع الفطرة فقد اتبع الدين، لأنها تحمي من الانحراف وتعطي الطمأنينة. قال الله تعالى فيهم:
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ. نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ﴾ [فصلت: 30-32] .
أما بالنسبة للشق الثاني من السؤال، وهو إن كانت هذه الحياة كفيلة بالحكم الأبدي على الإنسان، فالجواب بنعم، لأن الله تعالى قد أوضح لنا في كتابه أنه خلق الإنسان في هذه الحياة ليبتليه:
﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ [الملك: 2]
والآية التالية تبين أن مكان الابتلاء للإنسان هو الحياة الدنيا:
﴿يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا، قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ﴾ [الأنعام: 130]
ومن رحمة الله بالناس أن أبقى لهم باب التوبة مفتوحا ما داموا على قيد الحياة حتى لو كان ماضيهم قاتما:
﴿قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ﴾ [الزمر: 53-54]
وقد يموت الإنسان فجأة قبل التوبة، وهنا يكون قد خسر الفرصة التي أتيحت له للتوبة والعمل الصالح، لهذا أمر الله تعالى العباد إلى المسارعة في طاعته وعدم التأجيل لأن الإنسان قد يموت دون أن يتوقع:
﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: 133]
فعمر الإنسان على هذه الأرض رغم قصره إلا أن أمره خطير جدا، لأنه يترتب على وجوده القصير هنا حياة أبدية في الآخرة إما في الجنة أو في النار، وهذا ما يفسر كثرة الآيات القرآنية التي تتوعد الكافرين والعصاة من مصيرهم في الآخرة، ولهذا يندم هؤلاء أشد الندم عندما يواجهون الخسارة الكبرى في الوقت الذي كان بإمكانهم الفوز العظيم، ويتمنوا أن يعيدهم الله تعالى إلى الحياة الدنيا مرة أخرى ليتداركوا ما فاتهم لكن دون جدوى:
﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [المؤمنون: 99-100]
والآيات التالية تخبر عن حال أهل جهنم وأمنيتهم الوحيدة:
﴿وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ. وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ. مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ. فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ. وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ. قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ. تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ. وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ. فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ. وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ. فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً (العودة إلى الدنيا) فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: 91-103]