السؤال:
أنا مهندس أعمل منذ ما يقارب الشهر مع أحد رجال الأعمال البارزين في مجال البناء والتشطيب، مهمتي هي المراقبة على العمال وتلبية احتياجاتهم من مواد البناء بالإضافة إلى النظرة الهندسية عند حدوث الإشكال لدى العمال.
حضرني موقف مع رجل الأعمال عندما كان يتكلم مع الزبائن وهو يقول لهم: ((لقد قمت بالرشوة لفلان وفلان وفلان لكي يتم الأمر))، أذهلني ما سمعت من جحود ومجاهرة بالمعصية التي نتفق على حرمتها.
سؤالي لحضرتكم، هل يصح لي الاستمرار بالعمل مع هذا الرجل علماً أنه لدي عمل آخر لكن مردوده يقل عن الربع من المردود الذي يقدمه رجل الأعمال ذاك، والذي لا يكفي لمتطلبات الحياة ولشاب لا يجد عملا يريد أن يعف نفسه به، علما أنني لا أقبل أن أرشي أحداً أو حتى نقل الرشوة من الراشي إلى المرتشي، وأن الحادثة التي ذكرها وقعت كما تبين لي قبل بدء عملي عنده.
الجواب:
إن الرشوة حرام بدليل لا شبهة فيه لقوله تَعَالَىٰ:
﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ البقرة (188)
ولكن هناك فرقا بين أن تكون الرشوة لتسهيل الحصول على الحق وبين أن تكون الرشوة للاستيلاء على حق الغير.
فعلى سبيل المثال في مجال البناء والتشييد موضع السؤال:
- فإن كان صاحب العمل يقدم الرشوة لسرعة تخليص أوراق أرضه وسرعة استخراج التراخيص اللازمة للبناء أو إنجاز أعماله قبل موعدها المحدد فيأثم الراشي لوجود شبهة تعطيل مصالح الآخرين وأخذ دورهم، وفي الوقت نفسه فيه تشجيع لهؤلاء المرتشين على عدم القيام بعملهم إلا بمقابل مما يضر بمن لا يستطيع الدفع وتأخير دورهم، إلا إن كان صاحب العمل مضطرًا لدفع الرشوة وإلا سوف تتعطل مصالحه ولربما تتوقف ويتعرقل عمله فيتسبب ذلك في إلحاق الضرر به وبعماله، ففي هذه الحالة يعد تقديم الرشوة من اللمم وعليه الاستغفار، أما الإثم فيقع في هذه الحالة على المرتشي وحده الذي اشترط أخذ المال بدون وجه حق وكان قادرًا على إنجاز تلك الأعمال لكنه عطلها بهدف الحصول على ما لا يستحقه.
وفي هذه الحالة لا إثم يقع على العاملين معه حتى وإن كان هناك شبهة كما بينا؛ وذلك لأن السائل لا يشارك فيها وإنما يقوم بعمله على أكمل وجه، وإن كان ثمة إثم فيتحمله صاحب العمل، انطلاقًا من قوله تعالى:
﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ. وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ﴾ النجم (39)
- أما إن كان صاحب العمل يقدم الرشوة للحصول على حقوق الآخرين وليستحوذ على المناقصات ويحرم المتنافسين معه من الحصول على فرصتهم أو يقدم رشوة للحصول على أراضي الدولة بأسعار زهيدة أو للحصول على تراخيص بناء مزيفة إلخ….، فكل ذلك يقع تحت النهي والتحريم سواء على الراشي أو المرتشي أو حتى من عاونهما وتوسط لهما، لأنه أكل لأموال الناس بالباطل قال تعالى:
﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ، وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَاتَّقُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ المائدة (2).
وفي هذا المثال على العاملين مع رجل الأعمال المرتشي _إن تأكدوا من ذلك_ أن يبحثوا عن عمل آخر، وعليهم ألا يخشوا الفقر الذي يبثه الشيطان الذي حذرنا منه الله تعالى بقوله:
﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ، وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا، وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ البقرة (268)
وبقوله:
﴿إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ آل عمران (175)
ويستثنى من ذلك حالتان:
- عدم العلم بما يفعله صاحب العمل أو عدم التأكد من ذلك، وهناك كثير من العمال يؤدون عملهم ولا يعلمون شيئًا عن تلك الأمور، ولا يطالبون بالبحث والتقصي عنها، وما يحصلون عليه من المال حلال حتى لو كان رب العمل اكتسبها من حرام.
- أو في حالة الاضطرار قَالَ اللَّهُ جَلَّ وعَلَا:
﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ النحل (115)
وهذا ما دام لا يشارك في الرشوة ولا يعين عليها فـــ ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ المدّثر (38)
ومن هنا فعلى السائل الكريم أن يستمر في عمله، وكما يقول فإنه ربما فعل صاحب العمل ذلك في الماضي أو من باب تسيير أعماله، حتى يتبين له عكس ذلك، فإن تيقن بأنه يأكل أموال الناس بالباطل فليذهب إلى العمل البديل ولا ينبغي له أن ينساق وراء الخوف من فقْد الرزق، بل عليه اليقين بأن الله تعالى سوف يفتح له أبواب السماء من حيث لا يدري، فوعده جل جلاله حق للمتقين:
﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ، إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ الطلاق (3)