السؤال:
ما هو المقصود بمس الشيطان في الآية التالية:
﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: ٢٧٥].
الجواب:
اختلف المفسرون في القيام في الآية هل هو حالهم في الدنيا أم في الآخرة، والأقرب أنه حالهم في الدنيا.. وأما التخبط فأطلق على اضطراب الإنسان من غير اتساق، وتخبّط الشيطانُ المرءَ جعْله إياه متخبطًا، أي: متحركًا على غير اتساق.
وأما مس الشيطان فليس المعنى الشائع من زعمهم بتلبس الجني للإنسان، فذاك كلام لا أساس له[1]، وكي نصل للمعنى القريب للمس في هذه الآية، يمكن أن نتتبع الآيات التي ذكرت مس الشيطان في مواضع أخرى.
جاء ذكر مس الشيطان مع أيوب عليه السلام، ولم يفسرها أحد بالجنون ولا بدخول الجان فيه، يقول تعالى عن النبي أيوب:
﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾[ص:٤١]،
فنسب أيوب الضرَّ للشيطان؛ إما من باب التأدب مع الله بنسبة الخير لله والشر للشيطان، وإما لأن الشيطان بوسوسته لأهله قد أدى لوقوعه في النصب والعذاب، فأدى للتفريق بينه وبين وزوجه، وأفسد بينهما، وذلك هو كل ما يستطيعه الشيطان، وهو ذات المعنى الذي جاء في قوله تعالى:
﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ﴾[الأنبياء: ٨٣]،
أي أنه أصابه الضرر والمرض فدعا ربَه ليشفيه، فاستجاب له ربُه وكشف عنه الضرر، وأصلح الله ما بينه وبين أهله، أي زوجته.
كما جاء ذكر مس الشيطان في آية أخرى عند قوله تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ، وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ﴾ [الأعراف:٢٠٠]،
وقد فسروا مس الشيطان بالوسوسة.
وعليه فإن المعنى ذاته ينطبق على الآية الأولى، فمس الشيطان هو وسوسته وتزيننه ومحاولة إضلاله، وليس له سوى ذلك شيئاً بدليل قوله تعالى:
﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ﴾[النحل: ٩٨-١٠٠].
وخلاصة الآية هو أنها تشبّه حال آكلي الربا الذين فتنهم المال واستعبدهم حتى صاروا مهووسين بجمعه، وجعلوه مقصودًا لذاته، وتركوا لأجل الكسب به جميع موارد الكسب الطبيعي، فخرجت نفوسهم عن الاعتدال الذي عليه أكثر الناس ويظهر ذلك في حركاتهم وتقلبهم في أعمالهم فلا يرون الحسن حسنًا ولا القبيح قبيحًا، وصاروا يشبهون البيع “الحسن” بالربا “القبيح”، وهؤلاء حالهم يشبه حال من استحكم عليه الشيطان بوسوسته وتزيينه فأصبح خاضعا له متخبطًا وكأنه بلا إرادة.
الباحث: د. عبدالله القيسي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر عمرو الشاعر: (خرافة تلبس الجنّ / دخول الجن بدن الإنسان) https://www.hablullah.com/?p=6854