السؤال:
هل ممكن تفسير آية ﴿وكواعبا أترابا﴾ لأنني وجدت تفسيرًا أنهن النواهد من النساء اللاتي لم تتكسر ثديهن من شبابهن، وقوتهن ونضارتهن.
أليس غريبًا أن يكون شرحًا وتفصيلا لجسد المرأة والآية التي قبلها تتحدث عن الحدائق، والتي بعدها تتحدث عن الشراب ووسطها نساء لم يتكسر ثديهن! أم أنها تعني شيئا آخر؟ وشكرًا لكم.
الجواب:
الغريب في هذا التفسير ليس وقوعه بين وصف الحدائق وبين الشراب – كما تظن السائلة الكريمة – ولكن التفسير في حد ذاته هو الذي يحمل الغرابة أو بالأدق يحمل الإساءة إلى كتاب تعالى الذي يدعو إلى العفة والطهارة وإخفاء زينة المرأة إلا على محارمها، بل وانتقاء أنقى العبارات وأشدها أدبا في الحديث عما يخص المرأة وزينتها وعلاقتها بزوجها.
فحين تحدث القرآن عن زينة المرأة لم يفصل بكلمة واحدة ماهية تلك الزينة، وإنما جعل المرأة في حد نفسها زينة دون التعرض لذكر التفاصيل، وعندما أمرها تعالى بإخفائها لم يأتِ بلفظ واحد يصف جزءًا من جسدها، فحين ذكر تغطية مكان الصدر جاء التعبير بالجيوب ولم يقل حتى لفظ شعورهن واكتفى بلفظ الخُمر في قوله: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾ الذي يشمل الشعر والرقبة والصدر، وكذلك في الزينة التي تبديها المرأة لزوجها أو محارمها لم يذكرها تصريحًا أو تعريضًا في قوله تعالى: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ﴾ كما أشار لما يجب ألا تظهره من زيتها الخفية في مشيتها دون تفصيل في قوله: ﴿وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّۚ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ النور (31)
- والأمر نفسه كان في التعبير عن علاقة الفراش بين الزوجين التي غُلفت بعبارات الحياء والكناية والمجاز حين جعل كلا الزوجين لباسًا لبعضهما، كما ورد بعبارات التغشي والإفضاء والمباشرة والرفث والمس، تلك الكلمات البديعة غير الخادشة للحياء تجعل القارئ للقرآن خاشعا متدبرًا لا يذهب بخياله إلى فحش أو سوء أو كشف عورات أو وصف سوءات!
ثم يأتي هؤلاء بعد كل ذلك ليدَّعوا ظلمًا وزورًا أن القرآن الكريم يناقض نفسه فيأتِي بأوصاف لجسد المرأة تتنافى مع كل سبق، ولم يكتفوا باختلاق تلك المعاني وتحريف الكلام عن مواضعه وإنما افتروا على الله تعالى تفضيله للذكور ومنحهم النعيم الخاص بتك المسألة وحرمان الإناث منها، وقد جعلوا من الجنة مرتعًا خاصًا للرجال لممارسة رغباتهم الجنسية مع آلاف ومئات النساء تحت مسميات حور العين[1]!!
مثلهم في ذلك كمثل نظرة وحكم الجاهلية نحو المرأة التي يصورنها أداة للمتعة وإناء لتفريغ الشهوات دون أي اعتبار لآدميتها وحقوقها التي منحها إياها خالقها باعتبارها بشرا خلقه بيده كالرجل دون أي فرق بينهما في الدنيا والآخرة إلا بالتقوى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ الحجرات (13).
ولكنهم أعموا أبصارهم رغم وضوح الآيات البنيات في أن كل نعيم الجنة هو للمتقين وللسابقين ولأصحاب اليمين ذكورًا وإناثًا، فقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَىٰ:
﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ النساء (124)
وقد نتج عن تلك التفسيرات الخاطئة أن فتنوا كثيرًا من النساء في دينهن وظننَّ السوء في عدل رب العالمين وهو الذي لا يظلم الناس نقيرًا فــــ ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾.
ولا عجب في هذا التناقض، فإن كان من وجهة نظر أتباعه دليل للإثبات إلا أنه في الوقت نفسه دليل النفي والبطلان عند أتباع كتاب الله تعالى الذين لا يبغون عنه حولًا، مصداقًا لقوله تعالى في ذلك:
﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ النساء (82)
ليثبتوا بأنفسهم وبأيديهم أن ما يزعمونه هو من عند أنفسهم وليس من عند الله تعالى يزعمونه افتراء عليه جل جلاله وعلى رسوله الكريم.
أما بالنسبة للسؤال عن معنى الآيات، فعلينا العودة للكتاب نفسه في تدبر معنى كلمتي (كواعب) و (أترابًا).
لفظ الكواعب لم تذكر إلا في هذه الآية الكريمة: ﴿وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا﴾ النبأ (33) إلا أن اللفظ متعلق بنفس الجذر اللغوي للكلمة (كعب) الذي جاء في موضعين؛ هما قوله تعالى في آية الوضوء: ﴿وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ المائدة (6) والآخر في وصف البيت الحرام: ﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ..﴾ المائدة (97) والعلاقة بين كعب الرِّجل والكعبة تتمثل في الثبات على الأرض، لأن الكعب هو مفصل ملتقى القدم بالساق الذي عليه يقوم جسم الإنسان في وقوفه وسعيه في حياته، وكذلك الكعبة هي ملتقى المؤمنين لذكر الله تعالى والتجارة التي جعلها تعالى قيامًا للناس، والكعب صفة للرفعة والشرف فيقال فلان عالي الكعب أي عالي المقام.
وإذا جئنا لكلمة (أترابًا) فكما جاءت وصفًا للكواعب جاءت كذلك وصفًا للــ (عُرَب) فقال تعالى ﴿عُرُبًا أَتْرَابًا﴾ الواقعة (37) ولقاصرات الطرف في قوله سُبْحَانَهُ: ﴿وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ﴾ ص (52) والأشياء الثلاثة الموصوفة بالأتراب من الكواعب والعُرب والقاصرات الطرف ليس لها علاقة من بعيد أو قريب بالنساء ولا بوصف أجسادهن، فالآيات لا تتحدث تصريحًا أو تعريضًا عن علاقة الفراش بين الرجل والمرأة كما افتري على كتابه جل جلاله.
وكذلك كلمة (أترابًا) تعود في جذرها اللغوي إلى التراب الذي يحمل معنى التواضع والأصالة، ويذكرنا به سبحانه وتعالى في كثير من آياته بأن أصل خلقنا كان من التراب الذي سنعود إليه؛ لئلا ننسى ونغتر بالحياة وزينتها:
﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا..﴾ فاطر (11) وكذلك يحمل لفظ الأتراب معنى التربية.
وقد جاء ملازمًا للكواعب والعُرب وقاصرات الطرف ليدل على أن هؤلاء الخدم من خلق الجنة يجمعون ما بين الكعب (القيام وعلو الشأن) وما بين (التربية والتواضع) فهكذا خلقهم الله تعالى فلا يعصونه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
فهؤلاء الخدم رغم كل ما يفعلونه في وقوفهم الدائم في الطواف على المؤمنين المتقين من أصحاب اليمين ومن قبلهم السابقين رجالًا ونساء ويلازمونهم في القصور والخيام للعمل على راحتهم ورعاية أطفالهم دون كلل أو ضجر هم أصحاب شأن ومقام.
وذلك لئلا يظن المؤمنين أن هؤلاء الذين يخدمونهم ويطوفون عليهم هم فئة متدنية من المخلوقات، كما هو الحال في الدنيا؛ إذ أن أكثر من يقومون على خدمة البيوت لا يكونون من أصحاب الشأن أو المكانة العالية في المجتمع.
فالكواعب الأتراب هن القائمات على خدمة الفائزين بالجنة من المؤمنين، وهن يتميزن بعلو الشأن (كواعب) ورقي الأسلوب مع تواضعهن في طاعة من وُكِّلن بخدمتهم (أتراب).
وقف السليمانية/ مركز بحوث الدين والفطرة
الموقع: حبل الله www.hablullah.com
الباحثة: شيماء أبو زيد
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر مقالة (الحور العين) https://www.hablullah.com/?p=1318