السؤال:
بدأت بالقراءة لأتعلم القرآن وألتزم بأوامره ونواهيه. والآن بعد أن عرفت وتعلمت، فأنا مسؤول عما تعلمت وعرفت؛ ولكن إذا لم أكن أعرف، ألن أكون مسؤولاً؟ فهل الأفضل للناس العاديين أن يعرفوا القرآن أم لا يعرفوه؟
الجواب:
في البداية نوضح أمرًا قد استشكل على السائل الكريم ألا وهو مفاضلته بين العالم وبين الإنسان (العادي) على حد تعبيره.
- فإن كان يقصد بوصفه (الناس العاديين) أنهم الجهلة الذين لا يعملون أمور دينهم، فالحق أنه لا يوجد في دين الله تعالى هذا المصطلح، ولا يوجد إنسان جاهل بدينه، وإنما يوجد إنسان متجاهل لدينه!
فالجهل في كتاب الله تعالى لم يطلق على الجاهلين بالدين وتعاليمه وأخلاقياته، وإنما أطلق على المتجاهلين لأوامره والمخالفين لفطرتهم، والدليل على ذلك تحذيره تعالى لبعض رسله من الوقوع في الجهل وهم الرسل المؤيدون منه تعالى بالوحي والعلم والكتاب، فقال تعالى لرسوله نوح:
﴿إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ هود (46)
ولرسولنا:
﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَىٰۚ، فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ الأنعام (35)
يحذرهم تعالى من تجاهل ما أمروا به وهم أعلم الناس به.
فبعد إرسال الرسل وإنزال الكتب لا يوجد بما يسمى بالجاهل بتعاليم دينه أو غير القادر على التفريق بين الحق والباطل وبين الحرام والحلال.
وما يقصده السائل بالعاديين فهؤلاء هم الأمِّيون الذين لا يعلمون علم الكتاب ولا يستطيعون قراءته أو تدبره واستخلاص المعاني والعبر منه لأنهم غير دارسين ومطلعين على الكتب.
ولكن الالتزام بدين الله تعالى – الذي ربما يخشاه السائل – فلا يحتاج إلى طلب العلم والقراءة العلمية للقرآن(التخصص في العلوم الدينية) وإلا فالأميون الذين لا يستطيعون دراسة الكتاب غير مسؤولين عن أفعالهم وغير محاسبين عليها لعدم معرفتهم القراءة والكتابة، وهذا الاستنتاج مخالف تماما لمبدأ التكليف لكل عاقل!
وقد وجه تعالى خطابه للعالم وغير العالم، لأن كليهما قد جاءه الكتاب وبلغه من العلم ما يكفيه لالتزامه في قوله تعالى:
﴿فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ، وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ، فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ آل عمران (20).
والمسؤولية التي يتحدث عنها السائل الكريم لا تقف عند العلماء والمفكرين، وما جاء في كتبه تعالى ليس طلاسم أو رموزًا لا يعلمها إلا العلماء والدراسون مصداقًا لقوله تعالى:
﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ القمر (17)
وقطعًا لا يمنع أن هناك مواطن جمالية وأمثال بلاغية وتشبيهات بيانية ومجازية وعبرًا ومواعظ مستنبطة لا يستطيع إدراكها إلا الباحثون الدارسون والمتدبرون كما جاء في قوله تعالى:
﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ، وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ العنكبوت (43)
ولكن هذه الآيات لا تتعلق ببيان الحلال والحرام وبيان الحق والباطل، لأن ما يتعلق بهما قد فصله الله تعالى في الكتاب بشكل لا يخفى على أحد مهما قل مستواه العلمي:
﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ﴾ الأنعام (119)
كما أن ما يتعلق بالحلال والحرام والحق والباطل هو مما يعرفه الناس بفطرتهم التي فطرهم الله عليها، كما يبينه قوله تعالى:
﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا، فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ [الروم: 30]
ومن لا يعرف القراءة والكتابة فعليه بالسؤال كما كان يفعل المؤمنون في زمان البعثة في كل أمورهم كما بينه تعالى في الآيات التالية:
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ..﴾ البقرة (189) ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي..﴾ النساء (127) ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي..﴾ البقرة (186) ﴿يَسْأَلُكَ النَّاسُ..﴾ الأحزاب (63)
وهذا هو المعهود في كل زمان ومكان بدءًا من نزول الكتاب وحتى قيام الساعة، مصداقًا لقوله تعالى:
﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ، وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ النساء (83)
وقد أصبح الأمر أيسر من ذي قبل بانتشار وسائل التواصل المختلفة وسهولة البحث، وبالتالي فلا مجال لأحد أن يقول لا أعلم أو أن يدعي الجهل بدينه وتعاليمه وقد أمرنا تعالى في كتابه:
﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ النحل (43).
أما إن كان السائل الكريم يقصد بالمسؤولية مضاعفة العذاب بأنه إذا أخطأ فسوف يحاسب على خطئه أكثر من غيره لأنه قرأ القرآن وتدبره، فالحق أن هذا الاعتقاد يناقض ويخالف ما قرأه وتعلمه من قوله تعالى:
﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ المائدة (15: 16)
فقراءة الكتاب والالتزام به فيه فضل عظيم، ولن يكون وبالًا على صاحبه ليسوقه إلى عذاب أكبر كما يظن.
فلم ينبئنا تعالى في كتابه أن هناك عذابًا خاصًا للعلماء العاصيين أكثر من العصاة الآخرين، فقال تعالى:
﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ الأنعام (160)
الحالة الوحيدة المستثناة من العموم السابق هي أن يُضل هذا العالمُ غيرَه أو أن يكتم علمه ويشتري به الدنيا فهؤلاء قيل فيهم:
﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾ النحل (25).
وما قيل في حق الرسول إن ركن إلى الظالمين:
﴿إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا﴾ الإسراء (75)
فهذا القول لا ينطبق على مجرد الخطأ أو الوقوع في معصية الصادر منه كنبي من البشر وإنما في حالة تبديله كلام ربه والافتراء عليه كما بينت الآيات التي قبلها:
﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ، وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا﴾ الإسراء (73).
وإن كان يقصد بمسؤوليته أنه سيكون أكثر التزامًا من غيره فالطبع هناك مسؤولية تقع على عاتقه إذ أنه أصبح أسوة حسنة ومثالًا يحتذى به، وما أعظمه من تكليف يعقبه تشريف!
فالفارق بين العالم وغير العالم ليس في الأشد عذابًا وإنما في الأكثر نعيمًا:
﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ، قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ الزمر (9)
والعالم بشر ممن خلق الله تعالى يقع في الخطأ، لكنه أسرع في التوبة والعودة إلى طريق الحق، لأنه من أكثر الناس خشية لله تعالى:
﴿كَذَٰلِكَ، إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ فاطر (28)
فأولوا الألباب (أصحاب العلم والفهم) لهم خواص أخرى بخلاف ما يعتقد السائل نذكر منها:
- أن العلم اصطفاء منه جل جلاله لا يعادله ملك ولا مال:
﴿قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ، قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ، وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ، وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ البقرة (247)
- والعلم حصن الإنسان وملاذه من الانسياق وراء أي فكر مضل أو متطرف:
﴿وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ سبأ (6)
فيعصمه من اتباع الشبهات والفتن ويحميه من زيغ القلوب:
﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا، وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ آل عمران (7)
- العلم يُلحق صاحبه بصفة من صفات الملائكة بأن يكون شاهدًا على الوحدانية قائمًا بالقسط مصداقًا لقوله:
﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ، لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ آل عمران (18)
- والعلم يُخبت القلب لخالقه عند تدبره لكتابه تعالى:
﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ، وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ الحج (54)
وهؤلاء يبشرهم ربهم:
﴿وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ. الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ..﴾ الحج (35)
- العلم يرفع درجات صاحبه في الدنيا والآخرة:
﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ، وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ المجادلة (11).
وختامًا:
إن المسؤولية المترتبة على معرفة الناس للقرآن الكريم تمثل الحصن الشديد والركن القوي الذي يجنبهم الشقاء والضلال مصداقًا لقوله تعالى:
﴿قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا، بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ﴾ طه (123)
واتباع الهدى يُذهب الحزن ويبدد الخوف في الدنيا والآخرة:
﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا، فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ البقرة (38)
ولا ينبغي أن ينتاب المؤمن العالم الخوف أو القلق، فتلك المخاوف سببها الشيطان لتنفير الإنسان من العلم والالتزام:
﴿إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ آل عمران (175)
ومن أراد ولايته سبحانه وتعالى فليتمسك بكتابه قولًا وعملًا آناء الليل وأطراف النهار:
﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ﴾ الأعراف (170).
وقف السليمانية/ مركز بحوث الدين والفطرة
الموقع: حبل الله www.hablullah.com
الباحثة: شيماء أبو زيد