د. عبدالله القيسي
القرآن الكريم هو كتاب الله الذي ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: 42]، وقد نزل على رسول الله ﷺ منجَّماً في ثلاث وعشرين سنة، حسب الحوادث ومقتضى الحال، وقد يسر الله لهذه الأمة من عهد الرسول ﷺ وأصحابه الكرام حفظ كتابه الكريم، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾[القمر: 32]، فكتب الله له الخلود، وحماه من التحريف والتبديل، وصانه من تطرُّق الضياع إلى شيءٍ منه عن طريق حفظه في السطور، وحفظه في الصدور، مصداقاً لقوله تعالى: ﴿ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 41- 42]، وقوله تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]، وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ ]القيامة: 17: 19].
والقرآن الكريم كمصدر تاريخي لا ريب أنه أصدق المصادر وأصحها على الإطلاق، ولا سبيل إلى الشك في صحة نصِّه، بحال من الأحوال، فقد دوّن في البداية بإملاء الرسول ﷺ، وتلي فيما بعد، وحمل تصديقه النهائي قبل وفاته؛ ثم حفظ بتواتر أجيال وراء أجيال إلى يومنا هذا.
لقد ذكر القرآن الكريم بعض الأحداث التاريخية في عصر النبي عليه السلام، ولكن دون توسع، وفي بعض الأحيان يكتفي بإشارات قليلة، لكن تلك الإشارات لبعض الأحداث تكمن قيمتها في كونها قطعية الثبوت من ناحية أنها جاءت في القرآن الكريم، فهي أقوى مما في الروايات الظنية، وبناء على ذلك فإن بإمكان الباحث في السيرة النبوية أن يتأمل تلك الإشارات القرآنية للأحداث في زمن النبي ﷺ من أجل اتخاذها قاعدة لفهم السيرة النبوية وتصحيح أحداثها إن لزم الأمر ذلك.
وفي هذا المبحث أقف مع واحدة من القضايا التي أخذت جدلاً طويلاً من حيث صحتها، وهي قصة بني قريظة وما جرى لهم، بعد أن وجدت القرآن الكريم قد أشار إلى مفتاح قصتها، المفتاح الذي سيغير القصة التي جاءت بها الرواية، ويعيد هيلكتها من جديد في ضوء تلك الآية.
في إحدى ليالي رمضان وبينما كنت أقرأ في سورة الأحزاب -وهي السورة التي تتحدث عن غزوة الأحزاب (الخندق)- وصلت إلى قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً﴾ [الأحزاب:26]. وهذه الآية تحكي ما حدث ليهود بني قريظة بعد خيانتهم وغدرهم بالنبي وصحابته، وحين توقفت عندها عادت إلى رأسي كل تلك التساؤلات التي كانت في ذهني عن هذه الغزوة، فاعتبرت هذه الآية هي المفتاح لما أغلق من الأسئلة.
وقد شدني في هذه الآية قوله تعالى ﴿فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً﴾ فهي تتحدث عن قتل فريق وأسر آخر، وهذا يخالف ما قالته الروايات من قتل الجميع، وهي مخالفة واضحة تجعلنا نشكك في الرواية، ثم الآية تتحدث عن أسر فريق آخر، والرواية لم تذكر الأسر وإنما ذكرت القتل لهم جميعاً، وإذا كان هناك أسرٌ فالأقرب أنه كان هنالك قتال ومعركة، قتل فيها فريق وأسر آخر.
والقتل والأسر لا يكون إلا في حدوث معركة، والرواية لم تتحدث عن وقوع معركة، إذن فقد حدثت معركة بين المسلمين ويهود بني قريظة، فبعد أن علم المسلمون أن لا محيص من قتالهم لشنيع عملتهم، خرج بنو قريظة من حصونهم يقاتلون بخوف ورعب، فقتل فريق منهم وأسر بقية المقاتلين. وهذا يخالف ما قالته الرواية من استسلامهم لحكم الإعدام، ولا يصح تفسير الأسر في الآية بأنه كان للنساء والأطفال كما عمل المفسرون، فإن الأسير في تعريفه هو المقاتل المأسور في المعركة، أما النساء والأطفال فهم لا يحاربون، ويسمون في تراثنا سبايا لا أسرى، يقول الماوردي: “فأما الأسرى فهم الرجال المقاتلون من الكفار إذا ظفر المسلمون بأسرهم أحياء”( )، وقال: “وأما السبي فهم النساء والأطفال”( ).
وكما نعرف فإن القصة المذكورة في تاريخنا لا تذكر وقوع معركة، وكذلك لا تذكر وقوع أسرى، وهذا يخالف ما نصت عليه الآية، وهذه علة خطيرة -إذا جمعت مع أخواتها من العلل التي سأذكرها في هذه القصة- تجعلنا نحكم بعدم الدقة في تفاصيل الرواية التاريخية التي بين أيدينا، وتجعلنا نعيد البحث في هذه القصة بحيث تتوافق مع نص الآية، فإلى الرؤية الجديدة الموافقة للآية القرآنية والعقل والمنطق.
تقول القصة المروية في تراثنا -باختصار- أن اليهود في غزوة الأحزاب غدروا بالنبي عليه الصلاة والسلام وكانوا خنجرا من الخلف ونكثوا عهودهم معه بتعاونهم مع الأحزاب التي حاصرت المدينة، وأن النبي بعد انتهاء المعركة قبل حكم سعد بن معاذ عليهم لأنه وافق حكم الله، فقتل منهم في وقت واحد من 700 إلى 900 حسب اختلاف الروايات، وكانت طريقة قتلهم أن يخرجوا فردا فرداً فينفذ حكم الإعدام في الرجال البالغين ويصير النساء والأطفال سبايا عند المسلمين.
وقد دارت أسئلة كثيرة في ذهني حول هذه القصة منها:
كم سيكون عدد السبايا من النساء والأطفال إذا كان عدد القتلى 700؟
لو افترضنا أن وراء كل فرد من القتلى (الرجال) اثنان من السبايا من أسرته من النساء والأطفال فإن العدد سيكون 1400 من النساء والأطفال السبايا، أما لو افترضنا أن وراءه ثلاثة فإن العدد سيزيد والعلة ستكبر، وهذه السؤال يجرنا إلى سؤال آخر يجب طرحه وهو: أين ذهب هذا العدد من السبايا (1400)؟ وهل بقي في المدينة باعتباره سبيا أم أنه خرج منها؟
فإن قلنا –كما جاء تاريخيا-أنهم بقوا في المدينة وكان عدد جيش المسلمين حينئذ حوالي 3000 مقاتل، فإن كل بيت سيدخله سبياً واحداً على الأقل من هؤلاء اليهود.
وتخيلوا معي كيف سيكون مجتمع المدينة، وقد حل في كل بيت منه يهودي صغير قتل أبوه أو أخوه، أو امرأة قتل زوجها أو أبوها أو أخوها أو ابنها، كيف سيكون حقدهم على المسلمين الذين قتلوا أقرباءهم! وكيف سيتآمرون وينخرون المجتمع من داخله!! وكيف سيعملون ليلا ونهارا لتفكيك هذا المجتمع.
وهذا ما يجعلنا نشك في السبي، ونتساءل: هل فعلاً حصل هذا السبي أم لا؟ وهل يمكن أن يتربى أولاد هؤلاء بين المسلمين ثم لا نخشى غدرهم مرة أخرى؟
ونتساءل أيضاً: لماذا هذا العدد الضخم من القتلى؟ برغم أن جميع معارك النبي عليه الصلاة والسلام كما تذكر كتب السيرة لم يتجاوز عدد القتلى فيها من عدوه المائة.
وحين نفكر في هذا العدد نعود قليلا لنبحث في عدد اليهود الذين كانوا حول المدينة، فكم كان عددهم جميعا، وكم كان عدد بني قريظة بشكل خاص؟
لا يذكر لنا التاريخ كم كان عددهم، ولكن ما وردنا هو أنهم كانوا أقلية بجوار المدينة، وأنهم كانوا يتحالفون مع الأوس والخزرج، وحين أتى النبي إلى المدينة أحزنهم ذلك وكرهوه كرها شديدا، ولأنهم أقلية فقد لجأوا لعمل المكر والدس والخديعة والنفاق ضد عدوهم، وابتعدوا عن المواجهة الواضحة.
فإذا كان عدد المقاتلين من بني قريظة كما ورد تاريخيا 700 فرد، وقدرنا مثله أو حتى أقل منه من بني النضير، ومثله أو أقل منه من بني قينقاع -قبل أن يطردوا-فإن عددهم سيكون كبيرا وسيقارب الـ 2000 مقاتل، وهذا عدد ضخم يفوق عدد المقاتلين من المسلمين وخاصة حين وصول النبي إلى المدينة حيث كان هناك أتباع لعبدالله بن أبي بن سلول الذي استطاع أن يرجع ب 300 فرد في غزوة أحد بينما واصل 700 فرد القتال مع النبي. فإذا كان هذا مجموع عدد اليهود فلماذا إذن لجأوا إلى المكر والدس والخديعة؟ ألا يستطيعون بهذا العدد قتال النبي من أول يوم دخل فيه المدينة!!
ولن نجد إجابة شافية إلا إن قلنا أن العدد كان مبالغا فيه، وأن عددهم كان أقل من هذا. ولتقدير عددهم دعونا نركز على كلمة “أقلية” أي أن جميعهم أقلية بجوار المدينة، فإذا كان عدد جيش المسلمين في غزوة الأحزاب 3000 مقاتل -وبينهم المنافقون أيضا -فإن العدد المعقول للأقلية اليهودية سيكون أقل من ثلث هذا العدد وإلا لن يكونوا أقلية، وهذا يعني أن عدد المقاتلين من كل قرية لا يتجاوز 300 فرد فقط.
إذاً ما الذي جرى في هذه المعركة؟
في ضوء ما ذكرت سابقا فإن الرؤية الصحيحة التي أراها لهذه الغزوة هي: أنه بعد انتهاء غزوة الخندق، ذهب النبي والمسلمون ليؤدبوا هؤلاء الخونة، فلما وصلوا إليهم تحصنوا في حصونهم المنيعة وحاصرهم المسلمون حتى نفد ما لديهم، ولما عرفوا أنهم لا محيص لهم وأنهم إما يموتون أو يقتلون خرجوا ليقاتلوا بعددهم القليل والخوف والذعر في قلوبهم، كما وصفتهم الآية فقتل منهم فريق وأسر فريق آخر ومجموع الفريقين لا يتجاوز الـ 300 مقاتل.
ولكن أين كان مصير هؤلاء الأسرى وما هو مصير النساء والأطفال؟
ما جرى للأسرى هو ما حكمه الله فيهم، فإما أن يمن عليهم أو يفادوا، والذي أراه أن النبي عليه الصلاة والسلام فاداهم ببيوتهم وأموالهم فيخرجوا من المدينة كما خرج الذين من قبلهم ويتركوا أموالهم وبيوتهم فداء لأسراهم.
وهذه الرؤية التي أطرحها تتناسب مع الآية القرآنية وأصول الإسلام ومقاصده وأيضا مع منطق العقل الذي يطرح التساؤلات السابقة، خاصة إذا عرفنا أن موثقي الغزوات الأوائل لم يكونوا يتحرون الدقة في النقل، إضافة لدخول كثير من الإسرائيليات إلى كتب الحديث، ولا أستبعد أن يكون لليهود يد في هذه القصة.
*هذه المقالة جزء من كتاب (عودة القرآن) للدكتور عبد الله القيسي
*وللمزيد حول الموضوع ننصح بالاطلاع على المقالة المتعلقة (غزوة بني قريظة بين الحقائق والأساطير) على الرابط التالي https://www.hablullah.com/?p=2100