حبل الله
وقفة مع قوله تعالى: حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون

وقفة مع قوله تعالى: حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون

د. عبد الله القيسي

قال الله تعالى: ﴿‌…حَتَّى ‌يُعْطُوا ‌الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة: 29]

هذه الآية لا تتحدث عن غير المسلمين في المجتمع الإسلامي ممن يسمون قديماً أهل الذمة، وإنما تتحدث عن قتال مع عدوٍ معتدي، ولذا جاء في أول الآية (قاتلوا)، والقتال لا يكون إلا ضد جماعة مقاتلة لا ضد أفراد داخل المجتمع، والجزية في أصل اللغة مشتقة من الجزاء، وهي في الآية جزاء على المعتدي بعد انتهاء المعركة والانتصار عليه واعتباره صاغراً منهزماً.

ولماذا تؤخذ منه تلك الجزية؟

لأنه اعتدى وقتل وسفك الدماء وكلفنا مادياً في تلك الحرب، وبالتالي عليه أن يدفع جزاء ذلك، فالجزية تعويض عن خسائر الحرب يدفعها مرة واحدة بعد الانتصار عليه.

ولماذا حصرت القتال على المعتدي فقط؟

لأن الآيات القرآنية قررت أن القتال لا يكون إلا في حالة رد الاعتداء، وآيات القتال في القرآن كثيرة، بعضها جاء كقواعد عامة، وبعضها جاء في سياق تعليق على إحدى المعارك التي كانت في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، وبالتالي لابد لفهم آيات القتال أن تكون ضمن سياقها الموضوعي في القرآن، وسياقها الجزئي بين الآيات.

قال الرازي في تفسيره: “قال تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ [النساء: 91] . والمعنى: فإن لم يعتزلوا قتالكم ولم يطلبوا الصلح منكم، ولم يكفوا أيديهم.. فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم. قال الأكثرون: وهذا يدل على أنهم إذا اعتزلوا قتالنا، وطلبوا الصلح منا، وكفوا أيديهم عن إيذائنا.. لم يجز لنا قتالهم ولا قتلهم.

ونظيره قوله تعالى: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ . إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الممتحنة:8-9].

وقوله: ﴿وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [البقرة: 190] فخصَّ الأمر بالقتال لمن يقاتلنا دون من لم يقاتلنا” [تفسير الرازي 10/173].

فالقتال ليس للمخالف في الدين لأجل مخالفته، وإنما للمعتدي لأجل اعتدائه، أما غير المسلم إن لم يعتد علينا فإن الآية أمرت أن نتعامل معه بالبر والقسط، وهي أعلى درجات التعامل الأخلاقي.

وأما بداية الآية التي تصدرت هذه المقالة: ﴿قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ﴾ [التوبة: 29]  فهي لا تعني أن تشريع قتالهم كان بسبب اختلاف دينهم، وإنما هي تصف العدو الذي اعتدى عليهم بأن هذه صفاته، فهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله، وما حرمه الله ورسوله هو الاعتداء، فقد اعتدوا على المسلمين، والآية جاءت في سياق “معركة تبوك”، فهي وصفٌ لأولئك الذين يجهزون ويعدون لحرب المسلمين من الروم ومَن والاهم من ملوك غسان، بعد أن قتلوا رسول رسول الله عليه السلام الحارث بن عمير الأزدي، وكان قتل السفراء والرسل من أشنع الجرائم، وهو بمثابة إعلان حرب، مع قيام نصارى الشام مستندين للروم بالاعتداءات على مَنْ يعتنق الإسلام أو يفكر بذلك، فقد قتلوا والي مَعَان حين أسلم. (انظر تفسير ابن عاشور 6/260، والرحيق المختوم ص394).

فهؤلاء هم الذين أمرت الآية باستمرار قتالهم حتى تأمن الأمّةُ شرهم وتوقف عدوانهم، وجعل القرآن على خضوعهم علامة، هي دفعهم الجزية (انظر القرآن والقتال للشيخ شلتوت ص 74).

والنبي عليه السلام لم يبعث سرية، ولم يباشر غزوة، ولم يشتبك بقتال مع فئة، إلّا رداً على عدوان، أو دفعاً لأذى، أو بناءً على نكث عهد، أو بسبب مظاهرة لعدو أو تآمر معه على المسلمين، وكلُّ هذا متسق مع النصوص القرآنية التي لا يمكن أن يصدر منه ما ينقضها بطبيعة الحال، وعلينا أن نفهم تاريخ النبوة في ضوء الآيات لا العكس، فالقرآن قطعي والتاريخ ظني، والنبي لا يخالف رسالته.

وقد قامت الكاتبة والباحثة الإنجليزية كارين أرمسترونج بتتبع ما جاء في التاريخ من معارك النبي عليه السلام وذكرت أسبابها كلها في ضوء رد الاعتداء، ودونت ذلك في كتابها القيم (محمد نبي لزماننا).

وأما ما يدفعه غير المسلم في المجتمع الإسلامي من مال فهو المعادل لما يدفعه المسلم من زكاة، فتلك واجبات على كل فرد تعود بالنفع العام لكل المجتمع، وهي أشبه بالضرائب التي تؤخذ اليوم من الجميع، إذ هناك حق مالي للمجتمع على كل فرد، بهدف خلق توازن بين الفقراء والأغنياء في المجتمع، فلا ينسحق الفقير، ولا يتوحش الغني، ولذلك كانت الجزية كما الزكاة تعود على فقرائهم أيضاً.

*وللمزيد حول الموضوع ننصح بالاطلاع على المقالتين المتعلقتين:

مفهوم الجزية في القرآن الكريم  https://www.hablullah.com/?p=2845

حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون https://www.hablullah.com/?p=2785

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.