حبل الله
أوهام الناس في السحر والاتصال بالجن

أوهام الناس في السحر والاتصال بالجن

د. عبدالله القيسي

ما هو السحر الذي جاء ذكره في القرآن؟ هل هو التلبيس والخداع والخلط؟ أم هو تغيير طبائع الأشياء؟ أم هو استخدام لقوى غيبية (الجن) للإضرار بالآخرين أو غير ذلك؟

تذكر كتب اللغة عدة معان للسحر فيقال إنه: إخراج الباطل في صورة الحقِّ، ويقال هو الخديعة، ويقال هو كلُّ ما لَطُفَ مأخَذُهُ وخفي سببه.. ولا أجد بين هذه التعاريف ما يخدم التعريفين القائلين بأنه تغيير لطبائع الأشياء، أو استخدام قوى غيبية (الجن) للإضرار بالآخرين، وإنما يجمع بين تلك التعاريف كونه تلبيس وخداع وخلط، وهذا يعني أن استخدام لفظ السحر بتلك المعاني لا أساس له في اللغة..

أما في القرآن الكريم فقد ذكر (السِحر) بمختلف مشتقاته في القرآن الكريم ٦٠ مرة، وأكثر تكرار للفظ السحر جاء في سياق الآيات التي تتحدث عن معجزة موسى مع السحرة، وفي سياق تلك الآيات جاءت آيتان لتبينا حقيقة السحر، أما الآية الأولى فتذكر حقيقته بأنه “تخييل” وأما الآية الثانية فتذكر مكان ذلك التخييل وأنه في العين فقط، أي يخيل للعين فتنخدع فترى الأشياء على غير حقيقتها، يقول تعالى: ﴿فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ﴾[طه:٦٦] وقال تعالى: ﴿فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ﴾[الأعراف: ١١٦] فالسحر بحسب هذه الآيات هو إظهار الأشياءَ على غير حقيقتها، فينخدع الناسُ بذلك ظنًا منهم أنه فعلاً قد قام بتغيير حقيقة الشيء إلى شيء آخر.

وقد صار هذا العلم اليوم يسمى بعلم الخدع البصرية، يتم فيه خداع العين بسرعة الحركة، إذ من المعلوم أن العين ترى الحركة ضمن سرعة معينة فإذا تباطأت الحركة ظهر الشيء وكأنه ساكن، والعكس أيضًا إذا تسارعت الحركة ظهر الشيء وكأنه ساكن.

وتعلق الآية على موضوع سحرة موسى بأن الساحر لا يفلح: ﴿وأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى﴾ [طه: ٦٩] فإذا كان الساحر يستطيع تغيير طبائع الأشياء فكيف لا يكون فالحًا؟

ولو كان يستطيع الساحرُ أن يحولَ طبائعَ الأشياء ويستخدمَ الجنَ ويؤذيَ هذا ويضرَ ذاك فلم لا ينفع نفسَه؟ ولم لا يجعل نفسَه غنيًا بربط عقد محبة بينه وبين محافظ البنك المركزي مثلا؟

آية السحر:

آية سورة البقرة ربما تظهر معنى آخر للسحر، ولذلك استدل بها البعضُ على أن حقيقةَ السحرِ هو التأثير على العقل بواسطة تلبس الجني في الإنسان، أو بمعنى آخر هو تسخير الجن لإحداث أثر ما يغلب أن يكون ضارًا بشخص آخر.. فهل الآية تخدم فعلاً هذا المعنى أم لا؟ دعونا نتوقف عندها..

يقول تعالى: ﴿وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾[البقرة: ١٠٢].

وهذه الآية لا تصلح دليلاً لما ذهبوا إليه للآتي:

أولاً: هذه الآية ليس فيها أي دليل على دخول الجن في الإنسان، فهي لا تفسر عملية السحر بأنه دخول للجني في الإنسان فمن أين أتوا بذلك المعنى؟

ثانيًا: جاءت حول الآية روايات إسرائيلية مختلقة هي التي رسخت أوهامًا حول الآية بينما لم تنص على ذلك الآية.

ثالثًا: فسروا الشياطينَ في الآية بأنهم شياطين الجن، بينما جاء اللفظ مطلقًا، فيحتمل أن يكون شياطين الجن ويحتمل أيضًا أن يكون شياطين الإنس يقول تعالى: ﴿شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ [الأنعام: 112]  ، والأقرب في هذا السياق أن الشياطين هم شياطين الإنس لعدة قرائن، منها أن الآية تتحدث عن فريق من اليهود، وهناك آية أخرى وصفت علماء اليهود في علاقتهم مع المنافقين بالشياطين لما كانوا يقومون به من خداع وتلبيس حول نبوة محمد عليه السلام، قال تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ [البقرة: 14]  ، وقرينة أخرى أن الآية ذكرت أن الشياطين يعلمون الناس السحر، فالسحر هنا كان يُعَلَّمُ تعليمًا، والتعليم لا تقوم به الجن لعموم الناس وإنما يقوم به الإنس أو بالتحديد علماء وأحبار اليهود.

رابعًا: أكثر ما يستدلون به في وصف السحر هو قوله تعالى: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾ [البقرة: 102] . أولاً: هذه الجملة ليست معطوفة على السحر وإنما معطوفة على «ما أنزل على الملكين»، ثانيًا: لا يوجد في الآية ما يدل على أن التفريق يكون بقوى غيبية، والأولى أن نذهب لتفسير الآية بما هو متوفر من أدوات مشاهدة في التفريق بين الزوجين، إذ تستطيع وسائل الوسوسة البشرية والدسائس والخدع ووصف كل واحد منهما بأوصاف تجعل القلوب تتنافر ثم تفترق، وهذا ملاحظ فيما نراه في المجتمعات، والآية تطلق على ذلك علما “فيتعلمون” بمعنى أنهم صاروا يدرسوه ويتعلموه مستفيدين من خبرة بعضهم، ولو كان الأمر استخدامًا للجن لما احتاجوا للتعليم.

خامسًا: هناك اختلاف حول “ما” هل هي موصولة أم نافية؟ في قوله تعالى: ﴿وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ﴾، ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ﴾، والمشهور عند المفسرين -وهو الراجح- أنها موصولة، وهناك من اعتبرها نافية فكان للآية معنى آخر، وسواءً كانت موصولة أم نافية فإنها لا تؤكد ما ذهبوا إليه من معنى للسحر.

فيكون ملخص الآية على أن “ما” موصولة هو أن الملكين كانا يُعلِّمَانِ اليهودَ المكايدَ والدسائسَ ليكيدوا بها البابليين الظالمين وليخففوا من الظلم الواقع بهم، وكانوا يأمرون الناسَ بعدم الكفر بهم عند تعليمهم، وبالفعل تعلم اليهودُ منهم ما يستطيعون به إثارةَ الدسائس والتفرقة بين أي متلازمين، ولكن نجاح ووقوع هذه الخدع مرتبط بإذن الله، أي وفق السنن الطبيعية الجارية في الحياة، فإذا لم يكن وفق تلك السنن فإنه لا يقع.

أما ملخص الآية على إن “ما” نافية فسيكون أنه لم ينزل شيء على الملكين ببابل هاروت وماروت، ولم يعلما أحدًا شيئًا من السحر الذي يدعون أنه أنزل عليهم، فلم ينزل عليهما شيء ليقولا إنما نحن فتنة، وبالتالي فكيف يتعلمون منهم ما يفرقون به بين المرء وزوجه؟

سادسًا: بداية الآية تذكر أن فريقًا من اليهود ترك كتابَ النبي محمد عليه السلام ليتجه إلى كتب أخرى كتبها أحبارٌ يهود ونسبوها إلى أيام سليمان زاعمين أن تلك الكتب تعطيهم قوةً معينةً وربما زعموا أنها تعطيهم ما أعطيه سليمان من قوة في تسخير الجن والريح له، والآية تبين أن سليمان لم يكفر باعتبار صنيعهم كفر، وأن ما عنده معجزة من الله له، والمعروف أن اليهود لم يعترفوا بنبوته وإنما اعتبروه ملكًا فقط، فلا غرابة أن يشكوا في كونه من عند الله.

ومن هذا التصور في الفكر اليهودي ربما تسربت فكرة استخدام الجن من قبل الإنس، وما أكثر ما تسرب من الثقافة اليهودية إلى الإسلامية عبر جسر الأحبار الذين أسلموا بعد زمن النبي، ثم صار لتلك الثقافة روايات تؤكدها، وهذا ما سأناقشه في رواية سحر النبي عليه السلام من قبل يهودي.

رواية سحر اليهودي للنبي عليه السلام:

ومن أدلتهم على أن السحرَ تغييرٌ لطبائع الأشياء واستخدامٌ للجن في الإضرار بالآخرين، رواية في البخاري ومسلم التي تقول بأن يهوديًا قد سحرَ النبيَ عليه الصلاة والسلام، فما هي تلك الرواية وما مدى صحة متنها وثبوتها؟

جاء في صحيح البخاري – حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَحَرَ رَسُولَ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ يُقَالُ لَهُ لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَهُوَ عِنْدِي لَكِنَّهُ دَعَا وَدَعَا ثُمَّ قَالَ يَا عَائِشَةُ أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ أَتَانِي رَجُلَانِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ مَا وَجَعُ الرَّجُلِ فَقَالَ مَطْبُوبٌ قَالَ مَنْ طَبَّهُ قَالَ لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ قَالَ فِي أَيِّ شَيْءٍ قَالَ فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ وَجُفِّ طَلْعِ نَخْلَةٍ ذَكَرٍ قَالَ وَأَيْنَ هُوَ قَالَ فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ فَأَتَاهَا رَسُولُ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَجَاءَ فَقَالَ يَا عَائِشَةُ كَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ أَوْ كَأَنَّ رُءُوسَ نَخْلِهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا اسْتَخْرَجْتَهُ قَالَ قَدْ عَافَانِي اللَّهُ فَكَرِهْتُ أَنْ أُثَوِّرَ عَلَى النَّاسِ فِيهِ شَرًّا فَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ”[1] .

هذه الرواية فيها علل وإشكالات كثيرة، وهذا استعراض سريع لما يستشكل على هذه الرواية:

أولاً: هذه الرواية تعارض الآية التي تقول بعصمة النبي عليه السلام، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: ٦٩].

والعصمة هنا هي عصمة النبي في تبليغ الرسالة، والعصمة في تبليغ الرسالة هي حفظ عقله من أي اختلال قد يشوش على الرسالة، ومن أي تقوّل على الله بما لم يقله، وحفظ حياته من أن ينهيها أحدٌ قبل اكتمال الرسالة، وهذه الرواية تخالف الشقَ الأول في العصمة.

والمفارقة العجيبة أنهم في حين يجعلون عصمة النبي في كل أفعاله وأقواله ينسبون إليه هذه الرواية التي تقول بأن يهوديًا سحره، وأن ذلك السحر أثر على عقلِه فكان يصنع الشيءَ وهو لا يدري أنه صنعه، ولست أدري كيف قبلوا بهذه الكذبة القادحة في عصمة الله له من الناس في شيء يخص الرسالة بينما عصموه فيما هو بسيط ولا يخص حفظ الرسالة؟! فقولهم بتلك الرواية سينبني عليه كلامٌ خطير فهو قد يسمع الكلام فيعتقد أنه وحي وهو ليس كذلك. وقد يظن أن جبريل بلغه وهو لم يفعل، تقول الرواية في البخاري: (حَتَّى إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ صَنَعَ الشَّيْءَ وَمَا صَنَعَهُ) [2]؟!!

وفي رواية عنده أيضا: (حَتَّى كَانَ يَرَى أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاءَ وَلاَ يَأْتِيهِنَّ) [3]، وفي رواية ثالثة عنده أيضًا: (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَأْتِي أَهْلَهُ وَلاَ يَأْتِي) [4] ، وحتى لو حصروا اختلال العقل في أن يأتي النساء أو لا يأتيهن فإنه يعتبر أمرًا خطيًرا في التشكيك بقدرات النبي العقلية وليس كما يظن المدافعون عن الرواية.

ثانياً: هذه الرواية تخالف القرآنَ من زاويةٍ أخرى، فبينما يدحض القرآنُ ما قاله المشركون في حق النبي عليه السلام بأنه مسحور: ﴿نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا﴾ [الإسراء: ٤٧]. نجد الرواية تؤكد تلك الكذبة والتهمة ضده؟!

ثالثاً: تقول الآية بأن الشيطان ليس له سلطان على المؤمن: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [النحل:٩٩] فهل كان له سلطان على النبي؟ أوليس النبي أعظم المؤمنين فكيف تلبسه الجان؟

رابعاً: تقول بعض الروايات إن سبب نزول المعوذتين كان هذه الواقعة، مع أن كتب أسباب النزول تقول إن هاتين السورتين مكيتان بينما حادثة السحر حدثت في المدينة، فكيف يكون ذلك؟

خامساً: لماذا لم يتحرك النبي والصحابة باتخاذ إجراء معين ضد من قام بذلك ما داموا قد عرفوا الرجل؟

سادساً: ألا يكرر الخطاب الوعظي اليوم بأن من قرأ الأذكار لم يصبه شيء من السحر! فهل كان النبي لا يقرأ تلك الأذكار أو بالأصح ألم يكن في حالة ذِكر؟ وكيف تقول الروايات بأن من يقول كذا وكذا من الذِكر لم يصبه شيء في يومه بينما يصاب صاحب التوجيه والإرشاد نفسه؟!

سابعاً: هناك من يرى إشكال في سند الرواية، إذ أن هشام بن عروة هو الراوي الوحيد لهذه الرواية، وهو مطعون فيه بأنه مدلس، وقد اشتبه عليه الأمر في رواية هذا الحديث، وكذلك في اضطراب ألفاظ الرواية على اسم البئر بين “ذروان” و”أروان”، وهذه علة بسيطة في منظومة معلولة، وهي منظومة المحدثين في تصحيح أو تضعيف الرواية، إذ الشروط الخمسة التي وضعوها لم تتحقق واقعاً، وبالتالي فكل رواية تبقى ظنية حتى تلك التي صححوا سندها.

أظن أن هذا كافٍ لرد تلك الرواية ومن ثم إسقاط الاستدلال بها فيما ذهبوا له من تعريف للسحر..

النفاثات في العقد:

ومما يستندون إليه في هذا الموضوع قوله تعالى في سورة الفلق: ﴿وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ﴾ [الفلق: ٤]. حيث فسرها كثير من المفسّرين بأن «النفاثات» هن النساء الساحرات، وأن اللفظ صيغة جمع للمؤنث ومبالغة من نَفثَ، وأن النسوة الساحرات كن يقرأن الأوراد وينفخن في عقد، وبذلك يعملن السحر.

لا يوجد في الآية ما يصرح تماماً بأنهن ساحرات، ولكن هناك نفاثات يقمن بعمل معين هو النفث، ولكن هذا لا يعني أن تمتماتهن ونفثهن يضر أو يسحر، والآيات تنقل ما كان يجري، وأن هناك من يحترف هذا العمل سواء سموه كهانة أو سحراً، ولكن قد يتسببن للناس بضرر مما ينفثنه من سموم قد تضر الشخص بعلمه أو بدون علمه، ومن هنا جاء طلب الاستعاذة منهن.

والآية لا تقرر مقدرتهن على الأذية، ولذا اختلف المفسرون قديمًا في نوعية الشر المنسوب إليهن.

يقول محمد عبده:

العقد ما تعرفه في الخيط والحبل جمع عقدة، ثم تستعمل العقدة في كل ما ربط وأحكم ربطه، ولذلك سمى الله الارتباط الشرعي بين الزوجين “عقدة النكاح” وسمى الإيجاب والقبول ونحوه عقدًا ونسميه عقدة أيضًا.

والنفث النفخ الخفيف أو النفخ مع شيء من الريق، والنفاثة من صيغ المبالغة كالعلامة والفهامة يستعمل كذلك للذكر والأنثى والنفاثات جمعه، والمراد بهم هنا النمامون المقطعون لروابط الألفة، والنميمة تشبه أن تكون ضربًا من السحر لأنها تحول بين الصديقين من محبة وعداوة بوسيلة خفية كاذبة، والنميمة تضلل وجدان الصديقين كما يضلل الليل من يسير فيه بظلمته، ولهذا ذكرها عقب الغاسق إذا وقب، ولا يسهل على أحد أن يحتاط للتحفظ من النمام فإنه يذكر عنك ما يذكر لصاحبك، وأنت لا تعلم ماذا يقول ولا ما يمكن أن يقول، وإذا جاءك فربما دخل عليك بما يشبه الصدق حتى لا يكاد يمكنك تكذيبه، فلا بد من قوة أعظم من قوتك تستعين بها عليه وهي قوة الله[5] .

وتابعه في ذلك الرأي الشيخ المراغي بقوله:

﴿ومن شر النفاثات في العقد﴾ أي ومن شر النمامين الذين يقطعون روابط المحبة، ويبددون شمل المودة، وقد شبه عملهم بالنفث، وشبهت رابطة الوداد بالعقدة، والعرب تسمى الارتباط الوثيق بين شيئين عقدة، كما سمى الارتباط بين الزوجين: عقدة النكاح.

فالنميمة تحول ما بين الصديقين من محبة إلى عداوة بالوسائل الخفية التي تشبه أن تكون ضربا من السحر، ويصعب الاحتياط والتحفظ منها فالنمام يأتي لك بكلام يشبه الصدق، فيصعب عليك تكذيبه، كما يفعل الساحر المشعوذ إذا أراد أن يحل عقدة المحبة بين المرء وزوجه، إذ يقول كلامًا ويعقد عقدة وينفث فيها، ثم يحلها إيهامًا للعامة أن هذا حل للعقدة التي بين الزوجين[6] .

ويمكن أن تحتمل الآية أن النفاثات هي نوائب وأحداث الدهر، فيكون معنى الآية: ومن شر نوائب وأحداث الدهر التي تفكك روابط الألفة وأواصر القربى (الروابط الأسرية والاجتماعية). وهذين الرأيين الأخيرين هما أكثر الآراء اتساقًا من بين الآراء التي أوردها المفسرون في كتبهم.

كان هذا هو آخر دليل من القرآنِ استدل به أولئك الذين يرون للسحرِ حقيقة وأنه استخدام للجن في الإضرار بالإنس، ولأن الآية لم تذكر السحرَ أو طريقتَه صراحةً فقد رأينا كيف اختلفت التفسيرات والتأويلات حولها، ومن ثم فقد سقط استدلالهم بها..

علاقة الجن بالإنس:

يعتقد بعض الناس عند إصابة أحد أهاليهم بأي مرض نفسي أن سببه يرجع إلى العالم الغيبي أي “تأثير الجن”.. وهكذا استمر الناس من قديم الزمان بإرجاع سبب أي مرض إلى الجن وكلما تقدم العلم كشف بعض هذه الأسباب وأصبحت معروفة لدى أهل العلم المختصين في ذلك، ولكن للأسف يصر بعضُ عوام المسلمين إلى التفسيرات الخرافية القديمة ظنًا منهم أن هذا هو رأي الدين الإسلامي، وهذا غلط ووهم كبير، ونظرًا لاتساع المشكلة بين عوام الناس فقد كتب العلماء المعاصرون كثيرًا حول هذه القضايا.

واختصارا لهذا الموضوع الشائك سأعطي القارئ رؤية القرآن في “علاقة الجن بالأنس” أين تبدأ وأين تنتهي، وما هي حدود تأثيرهم على بني الإنسان، هل لهم تأثير حقيقي أم لا، وما هي أهم الأوهام والتلبيسات التي يعتقدها الناس بالنسبة للجن.. كان قد تحدث عن هذه القضية بعض الفقهاء المعاصرين كالشيخ شلتوت والشيخ الغزالي وغيرهم، وقد نفوا تلك الخرافات والأوهام التي يتناقلها الناس، وسأكتفي في نقل خلاصة تلك الرؤية بما قاله الشيخ محمود شلتوت في كتابه الفتاوى:

يقول رحمه الله: “جاءت الكتب السماوية، بعبارات واضحة لا تحتمل التأويل، بأن في العالم خلقًا آخر غير الإنسان لا ترى أشباحه، ولا تعرف حقيقته، وصرحت بالعناوين الخاصة بهذا النوع. فذكرت الملائكة وجعلت الإيمان بها عنصرًا من عناصر الإيمان، ثم ذكرت أعمالهم وفصلتها، ثم وصفهم بالطاعة الدائمة التي خلقوا بها وأنهم: ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: ٦].

وذكرت الجن وجعلتهم نوعًا مقابلاً للإنسان، يندرجون معه تحت عنوان “الثقلين” وخاطبتهم وتحدثت عنهم في المسؤولية والمؤاخذة والمصير، كما خاطبت الإنسان وتحدثت عنه في كل ذلك: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا﴾[الأنعام:١٣٠]، ﴿يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ﴾[الرحمن:٣٣]، ﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ﴾[الرحمن:٣٤]، ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾[الأنعام: ١٢٨].

وكما جاء القرآن بأصل وجودهم جاء بما يرشد إلى صلتهم بالناس، وأنها لا تعدوا “الوسوسة والتزيين” على نحو ما يحدث للناس من الناس، وأقرأ في ذلك من سورة الناس: ﴿مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾. [الناس:4-6]. وأقرأ في ذلك أيضا ما جاء على لسان الشيطان نفسه -وهو من الجن بنص القرآن- ﴿وَقَالَ الشَّيطَانُ لَمَّاَ قُضِيَ الأمرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُم وَعْدَ الَحقِّ وَوَعَدتُكُم فأَخْلَفْتُكُم وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُم مِن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوتُكُم فَاسْتَجَبْتُمْ لِي، فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُم﴾ [إبراهيم: ٢٢].

وإذن فليس للجن مع الإنسان شيء وراء الدعوة والوعد والوسوسة والإغراء والتزيين: ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ﴾ [الأعراف:٢٠]، ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الحجر: ٣٩]. وكما جاء في هذا القرآن، جاء فيه أيضًا ما يقطع بأن الذين يتأثرون بوسوسة الجن وإغوائهم إنما هم فقط ضعاف العقول والإيمان، أما أقوياؤهما فهم بعقولهم وإيمانهم بعيدون عن التأثر بها، وقد استثنى الله من المتأثرين بها عباده المخلصين وقال: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ [الحجر: ٤٢].

أما ما وراء الوسوسة والإغواء -من ظهورهم للإنسان العادي بصورتهم الأصلية أو بصورة أخرى يتشكلون بها ومن دخولهم في جسمه واستيلائهم على حواسه ومن استخدامه إياهم في جلب الخير ودفع الشر واستحضارهم كلما أراد ومن استطلاع الغيب عن طريقهم ومن التزوج بهم ومعاشرتهم وغير ذلك مما شاع على ألسنة الناس- فهذا كله مصدره خارج عن نطاق المصادر الشرعية ذات القطع واليقين، وقد صدَّقَ كثيرٌ من الناس في كل العصور كثيرًا مما يسمع من أحاديث الجن أو يتخيل من تصرفات منسوبة إليهم، صدَّقُوا ظهورَهم للإنسان العادي وتشكلهم بغير صورتهم وصدَّقوا محادثتهم للإنسان ودخولهم في جسمه وصدقوا استخدامه إياهم في جلب الخير ودفع الشر وفي العلم بالمغيبات .

صدَّق كثيرٌ من الناس ما شاع من ذلك عن الجن وتناقلوا فيه الحكايات التي ربما رفعوها إلى السلف واستمروا على ذلك حتى جاراهم الفقهاء وفرضوا صحته، واتخذوا من هذا الفرض مادة جعلوا منها حقلاً للتدريب على تطبيق كثير من الأحكام الشرعية عليهم وكان منهم من تحدثوا عن صحة التزويج بهم وعن وجوب الغسل على الإنسية إذا خالطها جني وعن انعقاد الجماعة بهم في الصلاة وعن مرورهم بين يدي المصلي وعن روايتهم عن الإنس ورواية الإنس عنهم وعن حكم استنجاء الإنس بزادهم وهو العظم وعن حكم الأكل من ذبائحهم، إلى غير ذلك مما نراه منشورًا في كتب الفقه أو نجده في كتب خاصة ذات عناوين خاصة بالجن.

وإني أعتقد أن ذلك من فقهائنا لم يكن إلا مجرد تمرين فقهي جريًا على سنتهم في افتراض الحالات والوقائع التي لا يرتقب وقوعها أو التي لا يمكن أن تقع. وإذن ففروض الفقهاء التي لم يقصدوا بها إلا مجرد التدريب الفقهي لا تصلح أن تكون دليلاً أو شبه دليل على الوقوع والتحقق فلنتركهم على سنتهم يفترضون ومردنا في ذلك إلى القرآن الكريم.

والقرآن الكريم يمتن الله فيه على الناس بنعمة الأزواج وبأن جعلهن من جنسهم وجعلهن سكنا ومودة ورحمة: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً﴾ [النحل:٧٢]، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم:٢١]، وهذا يقطع حبل الشك في فساد القول بإمكان التزوج منهم فضلاً عن صحته أو فساده. وكذلك يحكي الله في القرآن ما تحدث به الجن إلى قومهم في شأن الإنس، الذين كانوا قبل الرسالة يعتقدون أن للجن سلطانًا عليهم، فيعوذون برجال منهم يخلصونهم من سلطان الجن بما يزعمون لأنفسهم من سلطة استخدام الجن وسلطة منعهم من أذاهم، ولنصغ إلى الجن وهم يتحدثون إلى قومهم في عقيدة أنهم يعلمون الغيب وأن أناسًا يستخدمونهم في ذلك فيعلمون منهم ما تسوقه المقادير الإلهية ثم يعلنون أنها عقيدة فاسدة وأن الغيب لله وحده: ﴿وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا﴾[الجن:١٠] وإذا كان هذا حديثهم عن أنفسهم بالنسبة لمعرفة الغيب الذي جاء فيه قوله تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ﴾[الجن:٢٦] وقوله تعالى في جن سليمان: ﴿فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾[سبأ:١٤]. إذا كان هذا حديثهم بالنسبة لمعرفة الغيب وكان حديثهم عن أنفسهم بالنسبة لسلطانهم على الإنس وأن هذا وذاك موضع إنكار منهم أنفسهم كما حدث القرآن صرنا إلى يقين لا يمسه ريب بأن الجن لا يعلمون الغيب ولا يقدرون على الإيذاء الاتصالي أو التلبسي.

ومع هذا كله قد تغلَّب الوهمُ على الناس ودرج المشعوذون في كل العصور على التلبيس وعلى غرس هذه الأوهام في نفوسٍ استغلوا بها ضعاف العقول والإيمان ووضعوا في نفوسهم أن الجن يلبس جسمَ الإنسان وأن لهم قدرة على استخراجه، وقد ساعد على ذلك طائفة من المتسمين بالعلم والدين وأيدوهم بحكايات وقصص موضوعة أفسدوا بها حياة الناس وصرفوهم عن السنن الطبيعة في العلم والعمل عن الجد النافع المفيد”[7].

مس الشيطان:

من الآيات التي يرونها دليلاً على ما ذهبوا إليه في السحر وأنه استخدام للجن في الإضرار بالإنس قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ [البقرة: ٢٧٥].

لفهم هذه الآية نحتاج التوقف لبيان معنى القيام، والتخبط، ومس الشيطان.

أولا: القيام: اختلف المفسرون في قوله: “يقومون” هل هو في الدنيا أم في الآخرة؟

والمتبادر أنه إذا ذكر القيام انصرف إلى النهوض المعهود في الأعمال، ولا قرينة تدل على أن المراد به البعث، فيكون المراد بالقيام في قوله تعالى: ﴿لا يقومون إلا كما يقوم﴾، هو الاستواء على الحياة والقيام بأمر المعيشة، وهو معنى من معاني القيام جاء في عدة مواضع في القرآن، قال تعالى: ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد:٢٥]، وقال تعالى: ﴿أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ﴾ [الروم:٢٥]، وقال تعالى: ﴿وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾ [النساء: ١٢٧].

ثانيا: التخبط: أطلق التخبط على اضطراب الإنسان من غير اتساق، وتخبط الشيطان المرء جعله إياه متخبطًا، أي: متحركًا على غير اتساق.

ثالثًا: مس الشيطان: والآية هنا تنسب المس للشيطان لا للجن كما يزعمون، وإذا أردنا أن نفهمَ المعنى القريب للمس في هذه الآية، علينا أن نقرأها في سياق آيات أخرى ذكرت مس الشيطان، إذ هناك آيتان تذكران لنا مس الشيطان ولكن المفسرين لم يفسروهما بالجنون ولا بدخول الجان في الإنس، يقول تعالى عن النبي أيوب: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾[ص:٤١]، فنسب أيوب الضر للشيطان إما من باب التأدب مع الله بنسبة الخير لله والشر للشيطان، وإما لأن الشيطان بوسوسته لأهله قد أدى لوقوعه في النصب والعذاب، فأدى للتفريق بينه وبين وزوجه، وأفسد بينهما، وذلك هو كل ما يستطيعه الشيطان، يقول تعالى: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ﴾[الأنبياء: ٨٣]، أي أنه أصابه الضرر والمرض فدعا ربَه ليشفيه، فاستجاب له ربُه وكشف عنه الضرر، وأصلح الله ما بينه وبين أهله، أي زوجته.

أما الآية أخرى التي تذكر مس الشيطان ولم يفسرها المفسرون بالجنون أو باحتلال الشيطان للإنسان وإنما فسروا مس الشيطان بالوسوسة، فهي قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ﴾ [الأعراف:٢٠٠]، ففسروا الطيف بالوسوسة[8].

والقرآنُ يحصر عملَ الشيطان في الوسوسة والتزيين ومحاولة الإضلال، ولا يذكر مطلقًا احتلاله لجسم الإنسان. وللتخلص من تلك الوسوسة أرشدنا إلى الاستعاذة، يقول تعالى: ﴿وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[فصلت:٣٦]، ونزغ الشيطان ليس سوى وسوسته، تلك الوسوسة التي تذهب مع ذكر الله، ولا يستطيع الشيطان أن يكون له سلطان على من يذكره: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ﴾[النحل: ٩٨-١٠٠].

ولو كان مس الشيطان احتلالاً للإنسان لما شاهدنا حالات من الاضطرابات النفسية (الفصام) التي ينسبونها للجن قد حصلت لمتدينين ومؤمنين، بل إن بعضهم في أعلى درجات التدين، فهل كان له سلطان على أولئك والآية تقول ليس له سلطان عليهم!!

وخلاصة الآية أنها تشبّه حال آكلي الربا الذين فتنهم المال واستعبدهم حتى صاروا مهووسين بجمعه، وجعلوه مقصودًا لذاته، وتركوا لأجل الكسب به جميع موارد الكسب الطبيعي، فخرجت نفوسهم عن الاعتدال الذي عليه أكثر الناس ويظهر ذلك في حركاتهم وتقلبهم في أعمالهم فلا يرون الحسن حسنًا ولا القبيح قبيحًا، وصاروا يشبهون البيع “الحسن” بالربا “القبيح”، وهؤلاء حالهم يشبه حال من استحكم عليه الشيطان بوسوسته وتزيينه فأصبح خاضعا له متخبطًا وكأنه بلا إرادة.

الشيطان يجري مجرى الدم:

ومما استدلوا به في هذا الموضوع ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)، وهذا الحديث -إن صح- يعتبر صورة مجازية لمدى ما يمكن أن يقوم به الشيطان من وسوسة، ولا صلة له باحتلال الشيطان جسم الإنسان، وللحديث مناسبة تؤكد هذا المعنى، حيث تحكي الرواية أن أم المؤمنين صفية بنت حيي قالت: “كان رسول الله معتكفا فجئت أزوره ليلاً فحدثته، ثم قمت إلى بيتي فقام النبي يمشى معي مودعًا، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي أسرعا! فقال لهما: على رسلكما إنها صفية بنت حيي…قالا: سبحان الله يا رسول الله، قال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم/ فخشيت أن يقذف في قلوبكما شيئًا أو قال شرًا”.

وإنكار حقيقة السحر واعتبار أن ما ذكره القرآن هو سحر الوهم والخداع فقط قديم في تاريخنا الفكري، حيث أنكرت المعتزلة حقيقة السحر، ودخلت في صراع فكري مع أهل السنة حول ذلك، وممن أيد المعتزلة الإمام أبوحنيفة[9]، والإمام أبو إسحاق الإسترابادي من أصحاب الشافعي[10]، ثم أيدتهم مدرسة التجديد المعاصرة ابتداء بالشيخ محمد عبده والشيخ رشيد رضا ثم من جاء بعدهم.

وقد حاول المعتزلة قديمًا أن يقدموا تفسيرًا لما يحصل لحال أناس اختلت عقولهم، بأنهم قد يكونوا تناولوا موادا أفسدت عقولهم. كما يذكره الزمخشري: “النفث النفخ مع ريق، ولا تأثير لذلك، اللهم إلا إذا كان ثمّ إطعام شيء ضار أو سقيه أو إشمامه، أو مباشرة المسحور به على بعض الوجوه”[11].

وكأن الزمخشري هنا يشير إلى ما يسمى اليوم بالمخدرات سواء منها ما يشرب أو يطعم أو يشم، وهذا المواد يسبب إدمانها إلى اضطراب ذهاني.

فالمخدرات هي مجموعة من المواد طبيعية كانت أو صناعية تذهب العقل وتؤثر سلبًا علي الحواس وتتسبب في حدوث خلل بالمخ، وهذه المواد المخدرة تؤدي إلي تبديل المزاج وتغير المشاعر وتبدل السلوك نتيجة للتغير والخلل الحاصل في خلايا المخ.

العلاج بالقرآن:

شاعت في هذا العصر ظاهرة لم تعرف في عصر من عصور الإسلام التاريخية بهذا الشكل، وهي ظاهرة المعالجين بالقرآن الكريم، الذين يزعمون أنهم يستطيعون أن يعالجوا مرضاهم عن طريق قراءة آيات معينة من القرآن تقرأ عليهم، وفتحوا لذلك عيادات علنية تلقى من الزحام ما لا يجده من أفنى عمره في الطب!!

ولأن للقرآن قدسية في قلوب الناس، فقد اطمأنوا لصحة تلك الأفكار والأفعال، ومن لم يطمئن لها لم يجرؤ على نقدها حتى لا يتهم في دينه، ولذا انتشرت هذه الظاهرة وتكاثرت في غياب النقد الدقيق لها، وإن وجد كان محكومًا بضغط العوام، ولما لم أجد نقدًا واضحًا لهذه الظاهرة من علماء الشريعة الذين مروا على سطح المشكلة، وظنوا أن ذلك فتحًا جديدًا يُقَرِّبُ الناسَ إلى الدين وإلى الله وكتابِه، باعتبار القرآن شفاء لكل شيء، وما علموا ما الذي سيجنونه من هذه الفكرة غير المحققة، وما الذي سيتولد حين الإيمان بها من أسئلة تحرجهم.

وأما قوله تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾ [الإسراء:٨٢]، فقد قال المفسرون أن الشفاء يحتمل ثلاثة: أحدها: شفاء من الضلال، لما فيه من الهدى. الثاني: شفاء من السقم، لما فيه من البركة. الثالث: شفاء من الفرائض والأحكام، لما فيه من البيان [12].  ولكن بجمع هذه الآيات مع الآيات الأخرى التي بينت ما هو الشفاء ينصرف المعنى الأول فقط كما سنرى.

فقوله تعالى: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى، أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ﴾[فصلت: ٤٤]. فـ { هُدىً وشفاءٌ} يحتمل وجهين عند المفسرين: أحدهما: هدى للأبصار وشفاء للقلوب. الثاني: هدى من الضلال وشفاء من البيان[13]. وكلا المعنيين يؤكدان المعنى المجازي لا الحسي للشفاء. ولو أخذنا بالمعنى الحسي للشفاء لصار شفاء لكل الأمراض العضوية والنفسية، فمن اعتلت معدته قرأنا عليه قرآنًا، ومن التهبت عنده الزائدة الدودية قرأنا عليه قرآنًا، ومن شُج رأسه قرأنا عليه! وهذا قول باطل يعارض ما جاء القرآن له.

لقد جاءت آية ثالثة لتحسم المعنى وتقيد معنى الشفاء في المعنى المجازي فقط، فقيدته بأنه شفاء لما في الصدور، فبينما جاء ذكر الشفاء مطلقا في الآيات السابقة جاء هنا مقيدًا بمكان الشفاء، وكما هو معلوم من قواعد الأصول فإن المطلق يحمل على المقيد، والتقييد جاء لمكان ونوع العلل التي يشفيها القرآن، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾[يونس:٥٧]. فبيَّنت الآية أن القرآن شفاء لما في الصدور من الضلال، والصدور هنا رمز للجانب المعنوي عند الإنسان وهو الذي يقابل الجانب المادي عنده، والعلل التي تصيب الصدور هي إما علل الشك، والحيرة، والعمى عن الحق، أو علل الغل والحقد والحسد والكبر والغرور وكل أمراض القلوب، والقرآن شفاء لذلك كله، وكذلك شفاء لما يدور في الصدور من أسئلة عن الإنسان والكون والحياة، فالقرآن كتاب هداية لذلك كله.

وأما ما يصاب به الجانب النفسي عند الإنسان من الهم والحزن والخوف والقلق فإن القرآن يكون شفاء لها بما يزيده الإيمان من حالة اطمئنان لدى المؤمن فقط. وهذا الإيمان لا يحتاج لرفعه زيارة معالج بالقرآن، بل يحتاج لمزيد تصديق بما في الكتاب، على أن تلك المشكلات النفسية لا ترتبط ضرورة بضعف الإيمان لأن لها مسببات كثيرة وتحتاج لمعالجات نفسية واجتماعية وأسرية.

وبهذا المعنى يخرج ذلك الفهم الذي يوسع الشفاء لكل أنواع العلل، ويقصرها فقط على علل الصدور، ولكن يبقى الخلط عند الناس في الأمراض النفسية كونها تتعلق بما في الصدور -كما يظن البعض- فيجعلون من القرآنِ شفاءً لتلك الأمراض، وهنا يفتح الثقب الذي منه تتسرب كل رياح الخرافة والضحك على الناس، والسبب يعود بنظري إلى قلة فهم الناس بالطب النفسي وأسباب الأمراض النفسية وطبيعة علاجها، ولو أن القوم اقتربوا من فهمها لوجدوا فارقًا بين تلك العلل التي ذكرتها سابقا في الصدور وبين الأمراض النفسية التي أصبحت لها مسميات معروفة مشتركة وباتفاق عالمي، مع العلم بأسبابها وطرق تشخيصها وعلاجها.. إلخ. وخاصة ما يسمونه بالاضطرابات الذهنية، أما ما يتعلق بمسائل الهم والقلق فقد ذكرت كيف أن الإيمان يساهم في معالجتها أحياناً.

وهناك فكرة أخرى تحتاج لبيان اللبس فيها وهي أن المرض النفسي كالمرض الجسدي يبتلي الله به أي إنسان حتى المتدينين منهم، وكم رأيت من حفظة للقرآن وأئمة مساجد ابتلوا بمرض نفسي، وهذا يسقط القول الشائع بأن المرض سببه الابتعاد عن الدين.

إن من أراد أن يعظم القرآن فليؤمن به كتاب هداية للناس وإخراج لهم من الظلمات إلى النور، أما إقحامه فيما لم يأت به فذلك ليس تعظيمًا له، بل إنزال له من منزلته العظيمة تلك، وإني لأتعجب من تناقض القوم حين أطرح عليهم سؤالاً مفاده: هل الشفاء في القرآن ذاته أم في الشخص الذي يقرأه؟ فإن قالوا إنه في القرآن لا في الشيخ، قلنا لهم إذن لا داعي لفتح عيادات، والقرآن موجود في كل بيت، وبإمكان الإنسان أن يقرأ لنفسه، وسيكون أكثر لجوءًا واضطرارًا وبالتالي أسرع شفاء، فإن لم يستطع القراءة فليسمع من كبار القراء عبر أجهزة الصوتيات المختلفة، فإن قالوا إن الشفاء يكون في القرآن وفي الشيخ القارئ! قلنا لهم: لقد جانبتم الصواب ولا دليل على ذلك، وقد دخلتم عالم البدعة من أوسع أبوابه، وفتحتم بابًا لأكل أموال الناس بالباطل، وفتحتم بابًا للشك في كتاب الله عند أولئك الذين لا يشفى مريضهم.

وحتى ذلك الخطاب الذي يفتح المجال للمعالجين بضوابط معينة لا أقبله، لأنني إن سلمت لهم مجازًا بذلك فإن ما أراه من نتائج سلبية مكررة عند أولئك المعالجين من استخدام للكهرباء وللضرب وللضغط على عروق في أماكن حساسة عند الإنسان، بل واستخدام أدوية نفسية دون علم المريض، فذلك الخطاب للأسف يفتح الباب لمفاسد كثيرة، وعجيب من القوم كيف فتحوا باب سد الذرائع لسد كثير من القضايا التي سدت على الناس حياتهم وخاصة في قضايا المرأة، بينما لم يستعملوا هذه القاعدة في هذا الموطن الخطير الذي وصلت خطورته إلى وفاة أشخاص نتيجة استخدام بعض الأدوية الخطيرة، التي لا يستخدمها المتخصصون في الطب النفسي إلا في مراحل متأخرة مع المريض، بعد أن يكونوا قد استخدموا قبلها أدوية أخرى، بينما نجد أولئك الذين فتحوا عيادات للعلاج بالقرآن يقحمون أنفسهم فيما لا علم لهم به، ويستخدمون تلك الأدوية بشكل خاطئ، فيزيدون الطين بلة، ويساهمون في تأخير المرض النفسي، وفي زيادة الأوهام عند المرضى المصابين بذلك، وهكذا انفتح الباب، وزادت تلك العيادات حتى رأيت في الفترة الأخيرة أشخاصًا لا يستطيعون تلاوة القرآن بشكل جيد، بل يكسرون ويلحنون ثم يدّعون أنهم يعالجون، وليس إلا المال يطلبون.

والمسلم العاقل الذي يحترم تعاليم دينه عليه أن يذهب لأهل الاختصاص في ذلك، وأهل الاختصاص هنا هم الأطباء النفسيون، وهكذا كان تاريخ النبوة من قبل، فكتب التاريخ والسير تروي لنا أن النبي عليه السلام كان يحث أصحابه على التداوي لدى أهل الاختصاص فيقول: “اذهبوا إلى الحارث بن كلدة الثقفي، وهو طبيب مشهور منذ الجاهلية عرفه العرب، بل جاءه رجلان يعرفان الطب من بني أنمار فقال لهما: “أيكما أطب؟”، يعني أيكما أحذق وأمهر في صنعة الطب؟ فأشاروا إلى أحدهما، فأمره أن يتولى هو علاج المريض، يعني أن الإنسان يبحث عن أمهر الأطباء وأفضلهم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.

وما جاء من روايات تتحدث عن تطبب النبي عليه السلام، أو حثه على دواء معين فهي إن ثبتت تندرج ضمن مقامه البشري الذي أخذه من تجربة قومه، ومما كان عنده من الطب، وليست تشريعًا ولا وحيًا، فإن وجد الطب اليوم خطأها أو تجاوزها فإنها ليست من الدين، وإنما هي من التجربة، يقول ابن خلدون: “وللبادية من أهل العمران طبّ يبنونه في غالب الأمر على تجربة قاصرة على بعض الأشخاص متوارثا عن مشايخ الحيّ وعجائزه، وربّما يصحّ منه البعض إلّا أنّه ليس على قانون طبيعيّ ولا على موافقة المزاج. وكان عند العرب من هذا الطّبّ كثير وكان فيهم أطبّاء معروفون كالحارث بن كلدة وغيره.

والطّبّ المنقول في الشّرعيّات من هذا القبيل وليس من الوحي في شيء وإنّما هو أمر كان عاديّا للعرب. ووقع في ذكر أحوال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من نوع ذكر أحواله الّتي هي عادة وجبلّة لا من جهة أنّ ذلك مشروع على ذلك النّحو من العمل، فإنّه صلّى الله عليه وسلّم إنّما بعث ليعلّمنا الشّرائع ولم يبعث لتعريف الطّبّ ولا غيره من العاديّات”[14] . وهو ما أكده الفقيه الحنفي ولي الله الدهلوي (ت 1176هـ) فقال: “ما ليس من باب تبليغ الرسالة، .. ومنه الطب، .. ومستنده التجربة”[15].

لقد عاش المسلمون فترة مزدهرة قبل أن تغزوهم الخرافة، وشاع الطب بينهم، وتقدم الطب في ظل حضارتهم، فكانوا يومًا ما أساتذته، وعُرف منهم أسماء لامعة على مستوى العالم، مثل أبي بكر الرازي، وابن سينا، وابن رشد، والزهراوي وغيرهم، وانتشرت كُتبهم واستفاد منها كل من طور الطب لاحقًا، وخذوا مثالاً (الحاوي) للرازي، و(القانون) لابن سينا، و(الكليات) لابن رشد، و(التصريف لمن عجز عن التأليف) للزهراوي.

حوار مع صديقي:

كنت أحدث صديقي عن ظاهرة انتشار عيادات العلاج بالقرآن أكثر من انتشار عيادات الأطباء النفسيين! وعن إقبال الناس على العيادات الأولى أكثر من الثانية! برغم أن ما يعالجونه ليس إلا اضطرابًا نفسيًا يحتاج إلى طبيب وعلاج نفسي، وأن التردد على المشعوذين والمعالجين بالقرآن قبل الطبيب النفسي يضاعف المشكلة ويعمقها أكثر مما يقدم علاجًا!!

– يقول صديقي: لماذا اعتبرت المعالجين بالقرآن مشكلة؟

قلت: لأن ذلك باب انفتح من باب الخرافة وأكل أموال الناس بالباطل، بادعاءات لا أساس ديني لها، وتتناقض مع العلم، فالقرآن جاء كتاب هداية وشفاء لما في الصدور، لا كتاب طب للأمراض العضوية والنفسية، ولم نسمع أن صحابيًا أو تابعيًا اشتهر عنه علاج الناس بالقرآن وإنما كانوا يتداوون عند من اشتهر عنهم الطب، والنبي كان يتداوى عند الحارث بن كلده الثقفي..

قال: والأمراض النفسية أين مكانها؟

صحيح أن الاطمئنان النفسي هو أحد نتائج اطمئنان القلب بالإيمان، ولكن الاضطرابات النفسية الذهنية لا تفرق بين قوي الإيمان وضعيفه، فهي كالأمراض العضوية تصيب أي إنسان سواءً كان متدينًا أو غير متدين.

قال: ولكني وجدت أن أمراضًا ممن يقال فيهم سحرًا قد شفوا عندما قرأ عليهم الشيخ آيات من القرآن؟

قلت: وهل الشفاء مقترن بالقرآن ذاته أم الشيخ؟

قال: بالتأكيد بالقرآن ذاته.

قلت: إذن فلماذا لا يسمعه من الأشرطة وبصوت أكبر قراء العالم الإسلامي؟ ولماذا يستخدم أولئك الشيوخ الضرب للمريض والضغط على أماكن في الرقبة ويستخدمون الكهرباء والماء الذي يزعمون أنه مقروء عليه؟ وقد اكتشف بعض الأطباء النفسيين أنهم يضعون فيه حبوبًا من علاجات الأمراض النفسية ثم يدعون أنه مؤثر بفعل قراءة القرآن عليه! وهل كل من يذهب لأولئك الشيوخ يتعافى؟ وماذا سنقول إن ذهبنا بشخص مريض وقرأ عليه الشيخ أو سمع القرآن فلم يتعافى؟ هل نشك في قدرة القرآن العلاجية؟

قال: وبماذا تفسر تلك الحالات التي تشفى؟

إنها ليست ظاهرة في العلاج بالقرآن فقط، وإنما هناك شعوب تعالج بالإنجيل وبالتوراة وفي كل شعب بحسب معتقداته، وكل أولئك يتحدثون عن وجود تأثير ما.

قال: وما تفسيرك لذلك؟

قلت: هناك ظاهرة اسمها “الأثر البلاسيبي” وهو تحسن صحي مُحَس ومُلاحظ، لا يعزى إلى العلاج ذاته، والبلاسيبو هو دواء أو إجراء علاجي وهمي يقدم للمريض على أنه علاج حقيقي فيحدث تأثيرًا، فقد يعطى حبوبًا من السكر أو النشا على أنه حبوب علاجية، وقد يجرى له إجراء جراحي زائف، أو علاج نفسي زائف.

وفي الدراسات الطبية عن الأثر العلاجي الحقيقي لدواء مقترح يستخدم الباحثون -إلى جانب مجموعة المرضى الذين يعالجون بالدواء- مجموعة ضابطة، تتناول البلاسيبو بدلاً من الدواء الحقيقي، وذلك حتى تتسنى ملاحظة الفرق بين تأثير العلاج الحقيقي وتأثير العلاج الوهمي (إذ إن للعلاج الوهمي تأثيرًا) وقياس مدى أفضلية الدواء الجديد على البلاسيبو، والبرهنة من ثم على أنه علاج حقيقي فعال يمكن أن يفيد في كل الحالات التي تتشابه في نفس المرض.

يرد بعض الباحثين هذا الأثر البلاسيبي إلى مجرد شعور ذاتي بالتحسن كنتيجة للاعتقاد في العلاج والإيمان بتأثيره الشفائي، ويرده البعض إلى المسار الطبيعي للمرض بما يعتريه من اشتدادات وهدآت وفترات هجوع طويلة وتراجع طبيعي، وربما الشفاء التلقائي التام كمآل طبيعي لبعض الأمراض والإصابات. غير أن تراكم الأبحاث المؤيدة للأثر البلاسيبي يشير إلى أن الأمر أكبر من مجرد إحساس ذاتي زائف، بل ثمة تحسن حقيقي مشهود وموثق ومقيس، حتى في بعض الأمراض العضوية[16]!

وقد تمت عدة تجارب على بعض الأمراض العضوية فتحسنت، وفي ضوء تلك النتائج الملموسة ربما يكون التفسير الأمثل لظاهرة “الأثر البلاسيبي” هو التفسير البيوسيكولوجي، فمن الواضح أننا بإزاء ظاهرة معقدة ربما لا يسعها إلا تفسير مركب يضفر التفسير النفسي بتفسير بيوكيميائي، فمن شأن الاعتقاد في العلاج ومشاعر الاهتمام والرعاية والمساندة والتشجيع والأمل التي يبثها الموقف العلاجي أن تستفز في الجسم آليات فسيولوجية تفضي إلى أثر فزيقي حقيقي، قد يكون هذا الأثر من خلال إطلاق “الإندورفينات” في مواضعها ومساراتها العصبية، وقد يكون من خلال حفز جهاز المناعة..

لعل هذا الهامش الشفائي الذي يتيحه الأثر البلاسيبي (إلى جانب الهجوع التلقائي للمرض) هو الباب الموارب الذي ينفذ منه الدجالون والأدعياء، ممن يدعي علاج حالات بغير العلاج الطبي المعروف.

قال: وما هي المشكلة إن تم الشفاء حتى بتلك الطريقة؟

قلت: أولاً: تلك حالات نادرة جدًا وليست في كل الأمراض، فالأورام والجروح والنزيف وغيرها كثير لا يفيدها ذلك الأثر، ثانيًا: استخدام ذلك النوع من الأثر البلاسيبي يغطي على مسار البحث الطبي الجاد والحقيقي، ويضل الناس عن العلاج الحقيقي إلى العلاج الوهمي، ثالثًا: إن أصحابه يأخذون مبلغًا من المال ليقدموا وهمًا لا علاجًا حقيقيًا، وهذا يندرج تحت أكل أموال الناس بالباطل. ثم إن الإسلامَ شرع لنا أن نذهبَ في كل أمر إلى خبرائه نسألهم عنه، ونستفتيهم فيه، استجابة لقوله تعالى: ﴿‌فَاسْأَلْ ‌بِهِ ‌خَبِيرًا﴾ [الفرقان: 59]  وقوله: ﴿‌وَلَا ‌يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾ [فاطر: 14]  وأهل الاختصاص في هذا الموضوع هم الأطباء النفسيون.

وهنا أحب التأكيد على أن المنهج العلمي السليم في حالة سكوت النص القرآني أو ظنية دلالته على مسألة غيبية هو التوقف حتى لا ندخل في عالم الخرافة، وقد لاحظنا من خلال الفقرات السابقة أنه لا توجد آية صريحة تفسر السحر بأنه استخدام للجن للإضرار بالإنس، بل إن الآيات حصرت علاقة الشياطين بالإنس في الوسوسة والتزيين والوعد الكاذب فقط، وأي زيادة على ما حصرته هو اختلاق يدخلنا في مزيد من الخرافات، ولا يخفى ما يفعله تراكم الخرافات في العقل الإسلامي من تخلف وتراجع عما وصل له العلم الحديث من كشف للسنن والأقدار في الكون، ومن ثم التعامل الحكيم معها.

إن الخرافات والأوهام أشبه ما تكون بالفيروسات التي تتراكم على جهاز الكمبيوتر، فإن كانت كثيرة أوقفته عن العمل وتعطل، وإن كانت قليلة أثقلته وجعلت عمله بطيئًا، وكلما كانت الفيروسات أقل كانت سرعته أكبر، وكذلك الخرافات والأوهام في العقل.. ولو أن العلم استسلم لتلك التفسيرات الخرافية للأمراض الجسدية والنفسية ما تقدم خطوة في مجال الاكتشافات والاختراعات التي وصلت لها البشرية اليوم، إذ الاستسلام لتلك التفسيرات الخرافية يجعل العقل متوقفًا عن البحث في الأسباب، ويكتفي بنسبتها إلى عوامل غيبية، إضافة إلى ما تخلقه تلك الخرافات من معارك خاطئة ضد التفسيرات العلمية فتجعل المجتمع في حالة صد وصراع مع العلم بدل أن يكون مبادرًا للاكتشاف والاختراع.

أما إذا سكت القرآنُ عن شيء وتحدث عنه العلم فإننا ملزمون بتوجيه القرآن ذاته أن نستمع لما يقوله العلم ﴿فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا﴾، والخبير في مثل موضوعنا هو الطب النفسي، فما الذي يقوله الطب النفسي في تفسير تلك الحالات؟

إن التفسير العلمي لما يسميه الناس سحرًا أو جنونًا، هو أنها اضطرابات نفسية ذهانية يأتي على رأس قائمتها اضطراب “الفصام” الذي تقدر نسبته في السكان بـ 1%، تشمل المتدينين وغير المتدينين، ويتوزع في العالم بنسبة شبه متساوية. ومرض الفصام: اضطراب نفسي يتسم بسلوك اجتماعي غير طبيعي وفشل في تمييز الواقع، تشمل الأعراض الشائعة الأوهام واضطراب الفكر والهلوسة السمعية والبصرية بالإضافة إلى انخفاض المشاركة الاجتماعية والتعبير العاطفي وانعدام الإرادة. وغالبًا ما يكون لدى المصابين بالفصام مشاكل نفسية أُخرى مثل اضطراب القلق والاضطراب الاكتئابي واضطراب تعاطي المخدرات، وعادة ما تظهر الأعراض تدريجيًا، حيث تبدأ في مرحلة البلوغ، وتستمر لفترة طويلة. قد يعاني الشخص الذي تم تشخيص حالته بالفُصام من هلوسة (أغلبها سماع أصوات) وأوهام (يتصف غالبًا بالغرابة أو ذو طبيعة اضطهادية) وكلام وتفكير مضطرب، يمكن أن يتراوح الأخير من فقدان تتابع الأفكار إلى ضعف ترابط الجمل من حيث المعنى وإلى كلام غير مفهوم في الحالات الخطيرة. ومن الأعراض الشائعة عند الإصابة بالفُصام، الانسحاب الاجتماعي وعدم الاهتمام بالملبس أو النظافة الشخصية والافتقار إلى الحافز والقدرة على تقدير الأمور. أما أسباب هذا المرض فيقول الدكتور أحمد عكاشة: “لا نستطيع الجزم بسبب واحد لهذا المرض، بل هو عدة تفاعلات بيئية ووراثية وفسيولوجية وكيميائية، وكل عالمٍ يؤمن بسيادة أحد الأسباب على الأخرى حسب مدرسة الطب النفسي التي ينتمي إليها “.

ومن الأشياء التي يؤكد عليها الأطباء النفسيون أن تأخر عرض من يحدث له أعراض هذا الاضطراب النفسي على الطبيب النفسي بالذهاب لمن يفك السحر من المشعوذين أو المعالجين بالقرآن يعني مزيدًا من التدهور للمريض وبالتالي تأخر مفعول الدواء، وكم من الحالات جربت أولئك المشعوذين والمعالجين ثم لما وجدت تأثير العلاج النفسي على مرضاهم اقتنعوا بأنه الطريق السليم، ولكن غالب تلك الحالات تأتي متأخرة، فمتى يعي المجتمع تلك المشكلة ويذهب مباشرة للطب النفسي.

علمًا بأن مستشفيات الطب النفسي لا تعتمد فقط على الدواء في علاج ذلك الاضطراب، وإنما تعتمد منظومة من العلاجات، منها العلاج النفسي التي يعالج الاضطرابات السلوكية والوجدانية وضعف المهارات الاجتماعية عند المريض، والعلاج المعرفي الذي يعالج اضطرابات التفكير من خلال مناقشة الأفكار اللامنطقية وتغييرها بأفكار ومفاهيم منطقية في التعامل مع الحياة، كما تستخدم أيضًا العلاج الروحي الذي يقوي من إرادة المريض لمواجهة مرضه بإرادة عالية، ويصبره على ذلك الابتلاء حتى يزول، وزرع الطمأنينة النفسية من خلال الثقة والإيمان بالله.

*هذا البحث منقول بتصرف من كتاب (عودة القرآن) للدكتور عبدالله القيسي

المراجعة والتدقيق: د جمال نجم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] صحيح البخاري برقم ٥٣٢١.

[2] البخاري ج٥/ص٢١٧٦.

[3] البخاري ج٥/ص٢١٧٥.

[4] البخاري ج٥/ص٢٢٥٢.

[5] تفسير جزء عم محمد عبده ص208 -209.

[6] تفسير المراغي ج30ص267.

[7] الفتاوى للشيخ شلتوت ص 21 بتصرف.

[8] انظر تفسير الطبري 13/335.

[9] فتح القدير للشوكاني ج1ص141. يقول: وقد أجمع أهل العلم على أن له تأثيرا في نفسه وحقيقة ثابتة، ولم يخالف في ذلك إلا المعتزلة وأبو حنيفة.

[10] انظر تفسير القرطبي ج2ص46. يقول: ذهب أهل السنة إلى أن السحر ثابت وله حقيقة. وذهب عامة المعتزلة وأبو إسحاق الإسترابادي من أصحاب الشافعي إلى أن السحر لا حقيقة له، وإنما هو تمويه وتخييل وإيهام لكون الشيء على غير ما هو به، وأنه ضرب من الخفة والشعوذة،

[11] الكشاف 4/822.

[12] تفسير الماوردي 3/268.

[13] تفسير الماوردي 5/187.

[14] مقدمة ابن خلدون ص 651.

[15] حجة الله البالغة (1/224).

[16]  انظر فتوى (تأثير البلاسيبو) على موقع حبل الله https://www.hablullah.com/?p=2766

 

 

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.