حبل الله
السفر عبر الزمن؛ معناه ونظرة الدين إليه.

السفر عبر الزمن؛ معناه ونظرة الدين إليه.

السؤال:

كان يوجد قضية تعرف بــ “السفر عبر الزمن” وهو الانتقال إلى الماضي أو إلى المستقبل

بعض علماء الدين حرموا ذلك بشدة وقالوا أن من يحاول إثبات الفكرة وإمكان حدوثها يعد (آثمًا) لأن ذلك من وحي الخيال ولا يمكن أن يحدث مهما كان، ولأن ذلك يدخل في الغيب الذي يعلمه الله وأن هذا يتنافى تماما مع سنن الله في الكون وطبيعته وقوانينه.

ونفوا أيضا معجزة الإسراء والمعراج وقصة أصحاب الكهف على أنها ليست سفر عبر الزمن وقالوا أن ذلك لا يعد من السفر عبر الزمن و أن ذلك من معجزات الله التي لم تتكرر مرة أخرى والفكرة نفسها محرمة.

هل كلامهم هذا صحيح؟

هل هذا محرم ويتنافى مع سنن الله في الكون؟ وهل الفكرة مستحيلة ولا يمكن أن تحدث نهائيا؟ وهل يوجد نص معين صريح يحرم فكرة السفر عبر الزمن؟ وشكرا

الجواب:

إن السؤال يبدو بسيطًا وقد يعتبره البعض ساذجًا يتحدث عن أسطورة آلة الزمن، والجواب لا يتعلق بكونه حلالًا أو حرامًا؟ ولكن السؤال يحمل خلفه وفي طياته عدة قضايا أهمها قضية (القضاء والقدر) التي يعتقد الكثير من الناس حتى الآن أن الله تعالى قد كتب على الإنسان أفعاله ومصيره قبل ولادته، حيث إن هذا الاعتقاد يخالف ويناقض قضية الاختبار والابتلاء، وقد بينا في مقالات سابقة أن الله تعالى لم يكتب سوى أشياء محددة كالميلاد والموت والابتلاءات الخارجة عن إرادته، وسوف نوضح فيما بعد ما علاقة آلة الزمن بتلك القضية.

ولكن في البداية نوضح أن الإسراء ليس معجزة ولا علاقة له بالسفر عبر الزمن الماضي أو المستقبل، إذ أن المعجزة يجريها تعالى على يد رسله لتكون دليلًا لقومهم على صدق نبوتهم وحملهم على الإيمان وتكون تحديًا لهؤلاء القوم عن الإتيان بمثلها، أما الإسراء سواء أكان بالنفس والجسد أو بالنفس فقط فإنها كانت للرسول وليست لقومه حيث لم ير ما حدث فيها غيره:

﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ الإسراء (1)

وأما المعراج فقد تحدثنا عنه في فتاوى سابقة وأثبتنا بكتاب الله تعالى عدم وقوعه وأن العروج إلى السماء خاص بالملائكة.

أما بالنسبة لأصحاب الكهف وبعثهم بعد مدة بقائهم:

﴿وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا﴾ الكهف (25)

وكذلك الرجل الذي أماته:

﴿فأماته اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ﴾ البقرة (259)

فكلاهما بالفعل معجزة دالة على البعث، لكنهما لا علاقة لهما بالسفر عبر الزمن، إذ أن كلا الحادثتين لم ترجع بأصحابها ولا بقومهم إلى الماضي السحيق ولم تقفز بهم نحو المستقبل.

ولا  يوجد شيء محرم في تلك الفكرة أو في تكرارها، والله سبحانه وتعالى قادر على أن يحيي ويميت في كل زمان ومكان، ولا تتوقف قدرته تعالى على إحياء الموتى بزمن الرسل والأنبياء، وربما قصد من تحريم الفكرة أن هذه المعجزات متعلقة فقط بالأنبياء وبالتالي انتهى زمنها، فإن كان هذا مقصده فقد جانبه الصواب في جزء من اعتقاده؛ ذلك لأن آياته تعالى سواء الكونية أو الإنسانية لا تتوقف عند زمن معين بل هي باقية بقاء الدنيا، وليس شرطًا أن تتم بالصورة أو بالمدة نفسها، والواقع يشهد بذلك، فقد رأينا أناس تعرضوا لأمراض أو حوادث أدخلتهم في غيبوبة لأيام وشهور وقرر الأطباء موتهم (بما يسمى الموت الإكلينيكي) وقد عادوا إلى الحياة مرة أخرى وسط ذهول الأطباء الذين ظنوا أنهم قد فارقوا الحياة، والأمثلة على ذلك كثيرة على كل المستويات الطبية أو غيرها، وذلك مصداقًا لقوله تَعَالَىٰ:

﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ، أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ فصّلت (53).

أما بالنسبة للسؤال المتعلق بالسفر عبر الزمن، فماذا تقصد السائلة الكريمة؟ هل تقصد مثلا أن هناك مركبة فضائية أو أرضية تسمى بآلة الزمن نستطيع من خلالها أن نعود إلى الزمن الماضي أو نقفز بها نحو المستقبل؟ أم أنها مجرد تخيل للفكرة؟

فالتساؤل يطرح افتراضات ثلاثة، اثنين يتعلقان بالفكرة وآخر يتعلق بالألية نفسها، ولنبدأ بالفكرة وإمكانية حدوثها:

  • فإما أن تكون مجرد فكرة من الأفكار الخيالية التي تناولتها بعض الأعمال الفنية تحت مسمى الخيال العلمي، فالأمر هنا لا يتعلق بالحل أو الحرمة؛ إذ أن الخيال لا حدود له ولا إثم يقع على الأفكار والابتكارات حتى لو كانت خارجة عن نطاق العادة والمألوف، وبالتالي لا نستطيع أن نصدر حكمًا بالإثم على المتخيل لها أو المهتمين بهذا النوع من الخيال العلمي إلا إذا تضمن قصدا أو بغير قصد ما يعد إساءة من وجهة نظر الدين.
  • وإما أنها تكون الفكرة قد حدثت بالفعل على أرض الواقع، وفي هذه الحالة فلتعلم السائلة الكريمة أن السفر عبر الزمن ليس وهمًا ولا سرابًا وإنما هو خاصية يتفرد بها الإنسان عن باقي المخلوقات، وهي صفة لا تنفك عنه منذ صغره، فكثير من الأطفال من يسافر بهم الخيال وتراهم يرون أحداثًا سواء أكانت واقعية أم خيالية وكأنها حدثت بالفعل، وهو ما ألهم كُتَّاب القصص أن يألفوا كتاباتهم لتغذية هذا النوع من السفر عبر الزمن عند الصغار.

والأمر لا يقف عند الأطفال، فأكثر الناس إن لم يكن جميعهم يسافرون بخياليهم إلى أحداث مضت سواء أكانوا عاشوا زمانها أو حتى التي لم يعايشوها، لكنهم يذهبون إليها بعقولهم من خلال حكايات الآباء والأجداد مما يجعلهم يتخيلوها وكأنهم قد عاصروا أصحابها.

أما السفر بالفكر نحو المستقبل فهو يحدث بشكل يومي ولكن على نطاق أوسع، وذلك في تخيل أو توقع أحداث مستقبلية منها القريبة كلقاءات العمل أو الأصدقاء وتوقع ما سيدور فيها، ومنها البعيدة كالسفر عبر الزمن لتوقع نجاحات أو التحاق بأعمال أو زواج وإنجاب وسفر وموت وحروب ونجاح وفشل، فيرى الإنسان نفسه في مواقف مستقبلية ويضع لها حوارات وسيناريوهات شتى بهدف تحقيق أحلامه في اليقظة أو حتى للهروب من قسوة الحاضر ليضع لنفسه أحداثًا مستقبلية بديلة تمثل سعادته وأولاده.

والأمر لا يتوقف عند الحياة الشخصية وإنما يمتد لأبعد من ذلك على مستوى العلم الكوني ونحن نشاهد المراصد الفلكية والأرضية التي تتنبأ بسقوط الأمطار وهبوب الرياح وحدوث تبعات الزلازل والأعاصير، وكذلك بعض المكتشفات التي تحدد أعمار الموتى في الماضي \من خلال الحمض النووي الذي كشف عن جرائم حدثت ربما منذ سنوات.

وهذا النوع من السفر بالعقل عبر الزمن الماضي والمستقبل مطلوب ومفيد لأنه من الفطرة التي فطر الله سبحانه الناس عليها، فلا علاقة له بالحرام والحلال ولا يحمل صاحبه إثمًا عندما يسافر بعقله فيما يفيده في التخطيط لمستقبل أفضل بالسعي والدراسة والعمل ككثير من العلماء الذين تخيلوا أنفسهم منذ صغرهم في مكانة رفيعة ويسعون لذلك ويستثمرون الفرص لتحقيق ما يرجونه.

وهو ما دعا إليه تعالى في كتابه بذكر الأدعية التي تعين المؤمن على تحقيق سعيه سواء أكان لمكانة علمية أو لثروة مادية كما في قوله:

﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ الشعراء (83)

﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي، إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ ص (35).

ولكن عندما يحدث العكس بأن يمر الإنسان بمرحلة صعبة فيضع أحداثًا مستقبلية أكثر مأساوية لتكتمل في ذهنه صورة الضحية أو الاستسلام للفشل فنراه يتوقع ويتنبأ بما يخشاه، وبعض الناس من يعيش حبيسًا بسفره إلى الماضي أو هائمًا في المستقبل ليتناسى حاضره وربما ينتابه نوبات من الخوف والفزع من مجرد تخيل وقوع ما يخشاه في المستقبل ويصاب بالوساوس والأوهام ﴿كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَان﴾.

وفي هذه الحالة يتضرر الإنسان إذا انخرط في سفره عبر الزمن للدرجة التي تعطله عن السعي في حاضره وتجعله لا يمت للواقع بصلة فيفقد حاضره ومستقبله ويصاب بخيبة الأمل ويصيبه الشعور بالفشل، لأن ما تمناه لم يُكلل بالنجاح وهو لا يدري أنه قد جنح في خياليه بما لا يناسب إمكاناته أو كان سفره عبر الزمن محملًا بسوء النية والذنوب والخطايا كمن قيل فيهم:

﴿وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ الحديد (14)

وعن سؤالها إن كان السفر عبر الزمن موجود في القرآن الكريم فإنه بالفعل تناول تلك القضية بالسفر عبر الماضي وطافت بنا آلة الزمن وسط أحداث وغيبيات، فمن نعم الله تعالى على الناس ولعلمه بخلقه في رغبتهم المستمرة في السفر عبر الزمن في البحث والتقصي عن أخبار السابقين فنقل إلينا أحداثًا نراها عند قراءتها كرؤيا العين وكأننا نعيش معهم تلك اللحظات والمواقف كقصص الأنبياء والصالحين وحتى المفسدين، وتلك الأحداث تتوافق مع الواقع في كثير من تفاصيلها وعواقبها، وذلك للتأسي بهم والاقتداء بمسيرتهم والاعتبار بمصيرهم:

﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ، مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَٰذَا، فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ هود (49)

لم يقتصر القرآن على السفر بالإنسان عبر الزمن في حدود الأرض بل تعدى ذلك إلى السفر به إلى السماوات العلا، إذ أخبرنا رب العالمين عما حدث في الملأ الأعلى قبل خلق الإنسان والحوار الذي دار بينه تعالى وبين ملائكته المقربين حيث صدر الأمر الإلهي بخلقه من الطين وأمر ملائكته بالسجود تعظيمًا له ولعظمة خلقه تعالى:

﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ البقرة (30) هذا بالنسبة للماضي.

وهناك غيب للحاضر نفسه عندما أخبر تعالى نبيه بما يضمره المنافقون:

﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ، وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ، نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ..﴾ التوبة (101)

وهو ما لم يعلمه النبي رغم جلوسه وحديثه معهم.

وكاستماع الجن للقرآن الذين لم يرهم النبي رغم وجودهم حوله:

﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ..﴾ الجن (1).

أما بالنسبة لغيب المستقبل، فما زال السفر عبر الزمن مستمرًا في الإخبار عنه سواء المستقبل القريب المتعلق بالدنيا كغلبة الروم في بضع سنين:

﴿وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾ الرّوم (3).

أو غيب المستقبل المتعلق بحديثه عن أهوال يوم القيامة وما سيدور فيها وما الذي سيقال وبماذا سيكون الرد، وعن الجنة ونعيمها لنتخيل دخولنا إليها ويرغبنا في العمل الصالح:

﴿يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ، وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ، وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ الزخرف (71)

والأمر نفسه في وصف العذاب الذي لو تخيلنا وجودنا فيه ولو للحظة واحدة كفيل بأن يصرفنا عن الفحشاء والمنكر:

﴿إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا﴾ الفرقان (12).

وهناك نوع آخر من السفر عبر الزمن ذكره القرآن الكريم وهو ما يتعلق بالرؤيا في المنام، فقد يوحي سبحانه وتعالى إلى عباده بوقوع أحداث مستقبلية كرؤيا الملك في قصة النبي يوسف، وكرؤيا النبي محمد بدخول المسجد الحرام هو وأصحابه، وهذا النوع من السفر ما زال يحدث لأكثر الناس إذ يسافرون في منامهم ويطوفون بلادا وبحارا ويعرجون سموات وهم في فراشهم.

ولا يتنسى لنا أن ننسى أننا الآن بالفعل نعيش فكرة السفر عبر الزمن عن طريق وسائل التواصل التي اختصرت المسافات عبر الأقطار عن طريق اختراق الأقمار الصناعية للفضاء ونقل الصوت والصورة، وأصبح باستطاعة من يعيش في القطب الشمالي أن يلتقي بآخرين في جنوب أو شرق أو غرب الكرة الأرضية في ثوان معدودة بشكل مباشر ومشاهدة مرئية دون الحاجة إلى مركبة فضائية ولا حتى طائرة تنقله في ساعات أو أيام.

ولعل هذا يشبه بشكل أو بآخر معجزة الإتيان بعرش ملكة سبأ:

﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ النّمل (40)

وهو ما لا يُستبعد حدوثه في المستقبل، وقد يصل العلماء عن طريق علم كتاب الكون إلى ما فعله أحد جنود النبي سليمان من إحضار الشيء في طرفة عين، فالعلم أصبح يتطور بسرعة البرق، فلم يكن أحد في الماضي يصدق حجم التطور التكنولوجي الذي يشهده العالم في وقتنا الحالي.

فربما يتطور الأمر بشكل أكبر عن طريق استخدام سرعة الضوء والصوت في الإتيان بالشيء في ثوان معدودة:

﴿وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ النحل (8)

هذا بالنسبة للسفر عبر الزمن دون الحاجة لآلة أرضية أو مركبة فضائية، وما علينا سوى تدبر ما بين دفتي الكتاب الذي بين أيدينا (القرآن الكريم) الذي ملكنا به مفاتيح المعرفة فاختصر لنا طرقا للوصول إلى معلومات كان من المستحيل الوصول إليها بدونه.

ثم نأتي للافتراض الثالث، وهو ما إن كانت السائلة تقصد بالسفر عبر الزمن سفرًا ماديًا بأي وسيلة سواء أكانت عن طريق آلة أو مركبة أو ما شابه ذلك، وهل تحققت في الماضي أو يمكن حدوثها في المستقبل،

وقبل الجواب عن هذا الاعتقاد علينا أن نجيب عن سؤال غاية في الأهمية يطرح نفسه ألا وهو، ما الهدف والنفع من وراء عودتنا إلى الماضي أو قفزنا نحو المستقبل؟ أعتقد أن الجواب سيدور حول معرفة أحداث مضت للرجوع عنها أو تغيير مسارها، أو الاطلاع على أحداث مستقبلية ربما لتجنب مخاطرها أو الاستعداد لها أو عدم فعلها، فهل بالفعل نستطيع فعل ذلك؟!

  • فلو تحدثنا عن السفر إلى الماضي بتلك الآلة، فماذا يُتخيل أن يُرى في تلك الأزمان سوى آثار وأطلال لبيوت ﴿خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ﴾ التي مهما بلغت من عظمة حضارتها فقد مات أصحابها ولم يبق إلا ذكراهم.

أم أن تلك الآلة التي سيركبها الإنسان إلى الماضي سوف تحيي له الأموات ويُبعث له من في القبور؟

فالعودة إلى الوراء لا تعني الرجوع في قرارات اتخذت وأفعال اكتسبت؛ إذ أن آلة الزمن إن استطاعت أن تعود به إلى زمن مضى فليس لها أن تحرك معها أحداثًا وقعت ولن تعيد الشمس والقمر والليل والنهار إلى سابق حركتها، فهي مجرد آلة مثلها كمثل السيارة أو القطار أو الطائرة، فكل منها يمكنه العودة إلى الخلف لكن ليس لأحدها أن تمحو أثر مجيئها من البداية ووصولها إلى النقطة الحالية، ومن ثم فلن تعود السيارة وتتراجع عن حادثة وقعت لها أو تتدارك اصطدامها بشخص لقى مصرعه ولن يسمعهم الموتى لتحذرهم من مصيرهم، وسيكون دور آلة الزمن منحصرًا في مشاهدة آثار الأحداث التي حدثت في الماضي فقط دون تغييرها.

وهو نفسه يشبه ما سوف يحدث يوم القيامة حين يرى الإنسان ما يشبه آلة الزمن تعود به إلى الوراء نوافذها شاشة للعرض تجري خلاله كل صغيرة وكبيرة فعلها في الماضي قبل موته، وتلك الآلة شأنها فقط هو العرض دون إجراء أي تعديل:

﴿هَٰذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ، إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ الجاثية (29).

أما لو أراد السفر بها إلى المستقبل، ليلتقط أنفاسه ويقول في نفسه ها أنا الآن أستطيع تغيير الأحداث وتدارك الأخطاء التي لم أتمكن من تغييرها في الماضي، فهيهات له ذلك؛ إذ أنه نسي أو تناسى في ظل انبهاره بركوب آلة الزمن ورغبته في مشاهدته أحداث المستقبل أنه لن يرى شيئًا!!

وليس لأنه حرام وإنما لأنه سيكون بين غيبين لا يستطيع رؤية أحدهما بأي حال من الأحوال ألا وهما:

  • إما غيب الله تعالى الذي لم ولن يظهره على أحد:

﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا. إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا﴾ الجن (27)

والغيب الذي أظهره تعالى على رسوله مذكور في كتابه ولم يعلم الرسول سواه، ولم يخبرنا عن غيره سواء أكان غيبًا دنيويًا أم غيبًا سماويًا وأخرويًا – ذكرنا أمثلته – مصداقًا لقول الرسول نفسه:

﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ، وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ﴾ الأعراف (188)

وقوله: ﴿مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَىٰ إِذْ يَخْتَصِمُونَ. إِنْ يُوحَىٰ إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ ص (70)

فالغيب المتعلق به جل وعلا سمي غيب لأنه غير مرئي، وبالتالي لن نراه حال ركوبنا آلة الزمن حتى لو ابتغينا نفقًا في الأرض أو سلمًا في السماء!

وهنا قد يقول قائل، أنه لا يريد الاطلاع على غيبه تعالى وإنما سيركب آلة الزمن ليطلع على غيبه نفسه وماذا سيفعل في المستقبل، فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا، كيف سيرى الإنسان هذا الغيب أو يعلمه وهو لم يفعله ولم يكسبه من الأساس؟ وكيف سيتجنب مخاطر لم يتعرض لها وكيف يتدارك أخطاء لم تقع منه بعد وكيف له أن يعود في قرارات لم يتخذها بعد؟!

  • فغيب الإنسان نفسه وما سوف يكسبه بإرادته في غده (ابتداء من اللحظة التالية وإلى سنوات قادمة حتى موته) لم يحدث، وهذا ما أشرنا إليه سابقًا من أن ما لم يفعله الإنسان فهو لم يكتب عليه بعد ولن يكتب عليه سوى ما عمله بالفعل:

﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ ولم يقل (نستنسخ ما كتبنا عليهم)

ولن يكتب عليه ربه سوى الأمور الخارجة عن إرادته كالميلاد والوفاة أو الابتلاءات، وحتى هذه الأمور مترتبة على أعماله ولا يتم كتابتها مسبقًا منذ الأزل كما يزعمون وإلا فلا معنى لاختبار الإنسان ما دام مسيرًا يمشي خُطًى كتبت عليه قبل مولده!!

وبالتالي فلم يصدر من الراكب حتى الآن أي عمل مستقبلي ليشاهده أثناء ركوبه آلة الزمن، ولن يرى شيئًا في المستقبل لنفسه أو لغيره سوى السراب؛ حيث أن المسافر ومن سيسافر إليهم أفعالهم تقف عند اللحظة التي يعيشونها لأنهم لم يفعلوا شيئًا في الغد ولا ما بعده حتى يراه المسافر.

ومن هنا وبناء على كل ما سبق فإنه حتى لو اخترع الإنسان تلك الآلة الملموسة العابرة للأزمان وركبها إلى الماضي فلن يرى إلا ما تبقى من آثار الأحداث، ولو ركبها نحو المستقبل فلن يرى شيئًا على الإطلاق، إذ لم يحدث شيئًا ليراه.

مع ملاحظة أن الراكب لآلة الزمن قد لا يرى نفسه من الأساس حيث أن من غيبه تعالى ألا يعلم الإنسان زمان موته ومكانه:

﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ لقمان (34)

ولهذا فلسنا بحاجة لآلة تطلعنا على الغيب:

﴿إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾ يونس (20)

وما أراد تعالى أن يطلعنا عليه فقد أخبرنا به ولن نصل إلى غيره، فلا ينبغي أن نكون كمن تطاول على ربه فذاق وبال أمره وعاقبة مكره:

﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ. أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا، وَكَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ، وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ﴾ غافر (36: 37)

فمن رحمته الله تعالى بعباده أنه لا يتوفى عباده إلا بعد أن ييسر لهم كل فرص الرجوع والتوبة، وقد أطلعهم على ما ينفعهم من الغيب مصداقًا لقوله تعالى:

﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ، أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ، فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ﴾ فاطر (37)

ولو كان في معرفة الإنسان لغير ما ذكره تعالى من الغيب نفعٌ يعود عليه لأطلعه عليه خالقه.

فربما لو علم ما أخفي عنه من الابتلاء بالشر لأصيب بالهلع ويئس وكفر، وإن علم ابتلاءه بالخير لأصيب بالكسل وفقد الهمة وتراجع عن عمل الصالحات، وتمكن الشيطان من فتنة كليهما فيكفران بعد إيمانهما:

﴿فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا، وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ﴾ الحشر (17)

وختامًا:

يقول تعالى:

﴿وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ، وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا﴾ الإسراء (11)

ومن عجلة الإنسان أنه يريد الاطلاع على كل ما يدور حوله ويتدخل في شئونه وشئون غيره، ومن جهله ظن أنه قادر على أن يتدخل في شئون ربه ويطلع على تدبيره أمور خلقه، لكن تناسى حدود علمه:

﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ الإسراء (85)

فهو يسعى للاطلاع على المستقبل ويسافر عبر الزمن وهو عاجز عن معرفة ما يدور حوله وفي حضوره، ولا يستطيع أن يحيط خبرًا بأغوار النفس البشرية حتى لو كان الشخص يقف أمامه في نفس اللحظة وينظر إليه، فقد يرى تعابير وجه مغايرة لما يشعر به الإنسان في باطنه، فربما يقف أمامه شخص يبادله العطف وهو يضمر قتله أو خداعه، ولذا نتوجه بالدعاء لمن يعلم قَالَ سُبْحَانَهُ:

﴿رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ، وَمَا يَخْفَىٰ عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾ إبراهيم (38).

وحقيق عليه أن ينظر إلى حاضره، وإن أراد تدارك أخطاء الماضي فعليه بالاستغفار والتوبة وإصلاح ما أفسد، ولا يخشى غده وغيبه امتثالًا لأمره تعالى:

﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ، فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ آل عمران (179)

وعند التخطيط لمستقبله ألا ينسى خلال سعيه أن يدرك حقيقة هامة ألا وهي إمكانية وقوع أحداث خارجة عن إرادته قد تعوق هذا التخيل أو حتى تغير مساره لما هو أفضل، وهذا ما يسمى باليقين والتوكل الحق وهو التسليم بأن ما سيأتيه من عند ربه فيه الخير له حتى لو بدا شرًا في بدايته واضعًا نصب عينيه أنه:

﴿لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ التوبة (51)

والسفر عبر الزمن بالفكر ممكنًا بالقراءة والاطلاع، إذ أن الكتب تنقل الماضي ومعاناته وأفراحه وأحزانه التي تحمل العبرة وتزيد القدرة على التخيل والسفر عبر مستقبل أكثر واقعية، بداية من كتاب الله تعالى أصدق الكتب الذي أبدع في هذا النوع من السفر والترحال لأنه يجول ويطوف بنا بين الماضي والحاضر والمستقبل بكل الصدق والشفافية وبالتفاصيل التي تؤثر على الإنسان إيجابيا وتربطه بواقعه الذي يُعده ويعبر به نحو مستقبل آمن تغشاه رحمته تعالى سواء في الدنيا أو الآخرة إذا أوفى بعهده مع ربه وظل راكبًا في آلة الزمن الربانية ألا وهي سفينة النجاة التي تطوف به الماضي وتبحر به نحو الجنة ولا تنسيه الاستمتاع بالحاضر:

﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةًۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ النحل (97)

وهو يبقى محتميًا بتلك السفينة من تقلبات العوامل المحيطة به من عواصف المحن ورعود الخوف وأمواج الظلم ليصل إلى بر الأمان بفضل النور الذي يضيء له ظلمات البر والبحر:

﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ المائدة (15: 16).

وقف السليمانية/ مركز بحوث الدين والفطرة

الموقع: حبل الله  www.hablullah.com

الباحثة: شيماء أبو زيد

 

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.