السؤال:
لدي سؤال يتعلق بإشكالية اعتبار جريمة الاغتصاب زنا مع الإكراه وبالتالي عدم ثبوته إلا بأربعة شهود رجال عدول أو إقرار المتهم، وهذا المعمول به في الفتوى والقضاء في الدول التي تقول أنها تتبع الشريعة الإسلامية، وكذلك وهو الأهم أن يقام على المرأة المغتصبة حد القذف ثمانين جلدة إذا لم تستطع إحضار الشهود، ومن المعلوم أن الجاني لا يفعل فعلته أمام الناس بل يتحسس الظروف التي تتستر على جريمته، ولو فرضنا أن هذه المرأة ستصرخ وتستغيث فيأتي الناس فهذا غير مسلّم به، لأنه قد لا يسمعها أحد أو قد يهرب الجاني فلا يراه الشهود وقد لا يكون من يحضر لإنقاذها رجال أو لا يكون منهم أربعة رجال، وقد يقوم بتخديرها أو كتم فمها أو تهديدها فلا تصرخ. الأمر الآخر أن الفقهاء لا يقبلون القرائن كاختبار الDNA أو آثار الاعتداء التي يقر بها الطب الشرعي. فهنا يصبح حكم الشرع هو أن الجاني له الهرب لأن الحدود تدرأ بالشبهات، والمجني عليها يتم جلدها فينتهي الأمر بالجاني وهو يكرر فعلته لا سيما إذا كان بيدوفيلي (البيدوفيليا تعني اضطراب اشتهاء الأطفال) و قد انتشرت قصص عن رجال يتحرشون بصغار من أقاربهم.
فتلخيصا أسئلتي هي كما يلي:
١- كيف يكون الاغتصاب زنا والفرق بينهما كبير خاصة أن الاغتصاب هو حق لآدمي؟
٢- إن عقاب المجني عليها بالجلد في حالة عدم الشهود هو تشجيع للجاني وزيادة في الظلم وتجن على الضحية، فكيف يستقيم هذا شرعا؟
٣- إن في اشتراط أربعة شهود رجال تضييع لحقوق المجني عليها، فالمجتمع به نساء ورجال وأمر كهذا إنما تشاهده المرأة بعينها فلماذا فرق الشهادة؟ و أنا أعلم أن ابن حزم يجيز ٨ نساء بدلا من ٤ رجال ولكن هذا ضرب من المستحيل أيضا في مثل هذه الجرائم.
٤- تعطيل دور القرائن في إثبات الجريمة يعطي للمجرم الحرية في ارتكاب جريمته خاصة وأن الشهادة الآن مع خراب الزمن لا يمكن التعويل عليها بينما الدليل العلمي أكثر ثقة وقطعية، وزمن الرسول لم يكن لديهم ما لدينا من التقدم ومع ذلك كانوا يستخدمون القرائن في النسب.
٥- في بلدي ذهبت امرأة إلى القاضي تشتكي أن زوجها اعتدى على طفلهما ذي الأربع سنوات، وجاء تقرير الطب الشرعي ليؤيد هذا لكن القاضي عاقبها بحد القذف لأنها لم تأت بأربعة شهود، فضاع الولد الذي دُفع إلى أبيه فارتكب به نفس الجرم وانتهي الأمر بالطفل في المشفى بتهتك في المستقيم، وقد حكم القاضي على الأب بالسجن سنة لعدم وجود الشهود!!! فهنا الأم جُلدت والطفل ضاع والأب المجرم لم يجد عقوبة تُذكر لتردعه فأي عدل هذا؟!
الجواب:
أسئلتك تطرح قضايا مهمة ومعقدة تتعلق بحقوق الضحايا من منظور الشريعة الإسلامية. إليك بعض النقاط التي يمكن أن تضيء على إشكاليات هذا الموضوع:
1_ الاغتصاب والزنا: الاغتصاب يُعتبر جريمة تتعلق بحقوق الفرد، بينما الزنا هو انتهاك للشرع وعلاقة غير شرعية. الفرق الجوهري هو أن الاغتصاب يتم بالإكراه، مما يجعله جريمة خطيرة. من الضروري أن يُنظر للاغتصاب كفعل عنيف يتطلب عقابًا مناسبًا وليس مجرد تصنيف ضمن الزنا.
عقوبة الاغتصاب: إذا كان الاغتصاب تحت تهديد السلاح أو بالقوة فإنه يُعتبر جريمة حرابة، ويُعاقب بعقوبة الحرابة المذكورة في قوله تعالى:
﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة: 33]
وقد اعتبرت الآية التالية أن إهلاك الحرث والنسل هو من قبيل الفساد في الأرض:
﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ﴾ [البقرة: 205]
والاغتصاب هو ضرب من إهلاك الحرث والنسل، فلا بد أن ينطبق عليه حكم الحرابة الوارد في الآية 33 من سورة المائدة.
استنادًا إلى الدراسات التي أجريناها في ضوء القرآن، يتعين تطبيق نوعين من العقوبات على مرتكب جريمة الاغتصاب.
النوع الأول: يتعلق بالتعويضات في إطار حقوق البشر (حق العباد)،
والنوع الثاني: يتعلق بالعقوبات ضمن نطاق القانون.
أما حق الله الناتج عن الجريمة، فهو بين المذنب وربه سبحانه؛ فإذا تاب الشخص وأصلح نفسه، فإنه ينجو من العقوبة الأخروية.
نظرًا لأن العقوبة التي ستُفرض على الجريمة تندرج ضمن الحق العام، فإنه بعد إثبات الجريمة، لا يمكن للمذنب الإفلات من العقوبة بأي حال. أما العقوبات التعويضية التي تُفرض في نطاق حقوق الفرد، فيمكن أن تُعفى إذا سامح الضحية.
التعويضات:
يختلف مقدار التعويض حسب حالة الضحية. يمكن تقدير واحد أو أكثر من البنود التالية في الوقت نفسه:
أ. الدية:
يتم تحديد التعويض عن الإصابات الجسدية الناتجة عن فعل الاغتصاب بناءً على الدية الكاملة، لأن اتلاف عضو كامل يوجب الدية الكاملة، فقطع الأنف أو فقئ العينين أو إذهاب السمع بالكلية يوجب الدية، وكذلك فإن الاغتصاب يؤدي غالبا إلى تدمير الحياة الجنسية للمعتدى عليها، فأوجب الدية الكاملة.
ب. مهر المثل:
يُفرض على الجاني دفع مهر المثل في حال تعرضت الضحية لضرر قد يؤدي إلى زواجها بشخص غير مناسب أو عدم الزواج على الإطلاق. على سبيل المثال، إذا تعرضت فتاة عزباء للاغتصاب، فإن احتمالية عدم زواجها بشخص مناسب لها أو اضطرارها للزواج برجل لا ترغب بمثله في الوضع الطبيعي تُلزم الجاني بدفع هذا المهر. وكذلك إذا تعرضت امرأة متزوجة للاغتصاب وأدى ذلك إلى طلاقها من زوجها، يُفرض على الجاني دفع مهر المثل.
ج. حكومة العدل:
إذا فقدت الضحية مصدر دخلها أو مكانتها الاجتماعية أو سمعتها، فيُقدّر التعويض بناءً على تقدير أهل الخبرة. على سبيل المثال، إذا فقدت الضحية وظيفتها أو مجتمعها أو سمعتها، يُلزم الجاني بدفع هذا التعويض.
عقوبة الإخصاء الجراحي/ الطبي:
- بما أن الجاني قد تسبب في ضرر غير مبرر لأحد الأعضاء المحرمة من الناحية القانونية والأخلاقية، فإنه يستحق أن يُلحق به الضرر في عضوه الخاص. الضرر الذي سببه الجاني للضحية سيظل أثره قائمًا مدى الحياة، ولذا يجب أن تكون العقوبة دائمة أيضًا. يرى البعض أن العقوبة المناسبة لهذه الجريمة هي عملية الإخصاء الطبي. وهذه العقوبة من باب القصاص. ويمكن أن يستدل على هذه العقوبة بقوله تعالى:
﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: 194]
وقياسا على ما جاء في قوله تعالى:
﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ﴾ [المائدة: 45]
- إذا قيل إن هذه العقوبة تعتبر ضررًا مستمرًا مقابل ضرر حدث مرة واحدة، فإنه يمكن مقارنة ذلك بجريمة السرقة؛ حيث يُجبر السارق على العيش بيد مقطوعة مدى حياته مقابل سرقة وقعت مرة واحدة.
- وإذا وُصفَت العقوبة بالقسوة، فإن شدة العقوبة تأتي من شدة الجريمة. ففي جريمة السرقة العادية تُقطع اليد فقط ، بينما في السرقة المسلحة (الحرابة) تُقطع اليد والقدم معًا (انظر: المائدة، 33)، فكلما زادت خطورة الجريمة، زادت شدة العقوبة.
2_ إثبات الجريمة:
يشترط لإثبات جريمة الزنا وجود أربعة شهود. أما في حالة الاغتصاب، فيكفي شاهدان إذا كان هناك إكراه أو تهديد، نظرا لكون الاغتصاب جريمة تقع على الضحية عنوة فيكون إثباته بما تثبت به الجرائم الموجهة للأفراد.
هذا التمييز في العقوبات يعكس حرص الشريعة الإسلامية على حماية الأعراض والأنفس، وتشديدها على من ينتهك حرمة الآخرين بالقوة أو التهديد..
3_ دور القرائن والأدلة العلمية:
يجب الاعتراف بقوة الأدلة العلمية مثل تحليل الـDNA والشهادات الطبية، فاستخدام هذه الأدلة يمكن أن يعزز من فرص تحقيق العدالة ويقضي على الفجوات التي قد يستغلها الجناة.
اختلف الفقهاء حول استخدام القرائن في إثبات الجرائم. بعضهم يرى أن القرائن القوية يمكن أن تكون دليلاً قاطعًا إذا كانت تشير بشكل واضح إلى الجاني، مثل آثار الأقدام، والبصمات على الأسلحة، أو غيرها من الأدلة المادية. تحليل DNA يُعتبر قرينة علمية دقيقة يمكن الاعتماد عليها نظرًا لدقتها العالية في تحديد الهويات.
يمكن الاستدلال بالآيات 26-28 من سورة يوسف كدليل على اعتماد القرائن في إصدار الأحكام في بعض الحالات:
﴿قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي، وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ . وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ. فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾ [يوسف: 26-28]
عندما اتُّهم النبي يوسف عليه السلام بجريمة المراودة من زوجة العزيز، تم الاعتماد على قرينة مادية لتحديد صدق ادعائها من كذبه. كان الحل المقترح هو النظر إلى قميص يوسف: إذا كان ممزقًا من الأمام فهي على حق، وإذا كان ممزقًا من الخلف فهو صادق وهي الكاذبة.
فهذه الآيات توضح أن القرائن المادية كانت عاملًا حاسمًا في إثبات البراءة أو الإدانة. القرينة هنا كانت في تمزق القميص، وهو دليل مادي ملموس تم الأخذ به للوصول إلى الحكم، في هذه الحالة، تم الاعتماد على الدليل المادي (القميص) بدلاً من الاعتماد فقط على أقوال الأطراف المتنازعة.
إذا تعرضت امرأة إلى الاغتصاب فإنه من المستحيل أن يتم ذلك في بيئة صالحة للشهادة، ذلك أن الجاني يتحين الفرصة التي تكون فيها الضحية وحدها بعيدة عن أعين الناس، فمطالبتها بالشهود هو انتصار للجاني وتخل عن الضحية لاستحالة قدرتها على استحضارهم غالبا، فالعدالة تقتضي الأخذ بالقرائن المتاحة لإعطاء الضحية حقها.
الخلاصة: الآية 26 من سورة يوسف تُعتبر دليلًا على صلاحية الاعتماد على القرائن المادية لإصدار الأحكام القضائية، وهي مبدأ يمكن تطبيقه في الحالات التي تعتمد على الأدلة العلمية الحديثة التي يمكن اعتبارها امتدادًا لهذا المبدأ القرآني.
4_عقاب الضحية:
إن جلد الضحية لعدم توفر الشهود هو ظلم مضاعف ويزيد من معاناة الضحايا، وهذا يتعارض مع مبادئ العدالة، لذا كان من الضروري أن يُعاد النظر في هذه الأحكام لتوفير حماية أفضل للضحايا، والحالة التي ذكرتها السائلة الكريمة، تؤكد الحاجة الملحة لإصلاحات في النظام القضائي. فالقضاة بحاجة إلى اعتماد مقاييس أكثر عدلاً تضمن حماية الضحايا وتقديم العدالة، خاصة في الجرائم التي تؤثر على النساء والأطفال. في المجمل، الأمر يتطلب مراجعة شاملة للأنظمة القانونية القائمة لتوفير بيئة أكثر أمانًا وحماية للضحايا، مع الأخذ بعين الاعتبار التطورات الاجتماعية والعلمية.
5_ اشتراط أربعة شهود:
تمييز الشهادة بناءً على الجنس يُعد عقبة أمام تحقيق العدالة، لأن النساء أيضًا يمكن أن يكن شاهدات. توسيع قاعدة الشهود لتشمل النساء أو استخدام طرق أخرى لإثبات الجريمة قد يسهم في تحقيق العدالة.
إن مسألة شهادة النساء في الشريعة الإسلامية تخضع للسياق والظروف التي تُقدَّم فيها الشهادة. القرآن الكريم لا ينقص من قدر شهادة المرأة مقارنة بالرجل بشكل عام، بل يعتمد التفريق أحيانًا على طبيعة الموضوع الذي يتم فيه الإدلاء بالشهادة.
على سبيل المثال، في آية الدين (البقرة 282)، تطلب الآية وجود شاهدين رجلين، أو رجل وامرأتين، وذلك في المعاملات المالية التي كانت في الزمن الماضي غالبًا ما تكون من مسؤولية الرجال. هذا ليس تقليلاً من شأن المرأة، وإنما هو مرتبط بمدى مشاركتها في تلك الشؤون آنذاك. فهذا التفريق لا يعني نقصًا في عقل المرأة أو صدقها، وإنما يتعلق بطبيعة التعاملات التي كانت أكثر شيوعًا بين الرجال.
في المقابل، هناك قضايا تكون فيها المرأة أكثر دراية وخبرة، مثل الأمور المتعلقة بالنساء أنفسهن، وفي هذه الحالات قد تكون شهادة المرأة مساوية أو أكثر وزنًا من شهادة الرجل.
هناك نصوص في القرآن، مثل آيات الملاعنة بين الزوجين، حيث تكون شهادة المرأة والرجل متساوية دون تمييز.
الخلاصة هي أن التفريق بين شهادة الرجل والمرأة يعتمد على السياق الاجتماعي والمهني، ولا يدل على نقص في مكانة المرأة أو قدرتها على الشهادة، ومسألة الشهادة على الزنا يستوي فيها الرجال والنساء[1].
6_ قاعدة “الأمور بمقاصدها”:
الشريعة الإسلامية تعتمد على القواعد العامة مثل قاعدة “الأمور بمقاصدها”، والتي تشير إلى أن الهدف من الحكم هو تحقيق العدالة والحق. إذا كانت القرائن مثل تحليل DNA تؤدي إلى تحقيق العدالة واليقين في وقوع الجرائم، فيمكن استخدامها كدليل شرعي.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر مقالة (شهادة المرأة) https://www.hablullah.com/?p=1461