حبل الله
المسيح الدجال: تناقض الروايات

المسيح الدجال: تناقض الروايات

د. عبدالله القيسي

مع إيماني بأن قضية العقائد لا تؤخذ إلا من دليل قطعي الثبوت، وأن القطعي الثبوت لا يوجد إلا في القرآن، إلا أني أحببت أن يقف القارئ معي على نموذج من بعض القضايا العقائدية التي تناقلها الناس دون تمحيص أو نقد، فبرغم وصولها عن طريق آحادي إلا أن الناس اعتبروها من العقائد، وإن كانت من فروع العقائد لا أصولها، ولو سلمنا لهم جدلا بتلك الفكرة، فإننا سنقع في تناقضات وإشكالات كثيرة حين نضع بين أيدينا خارطة تلك الأحاديث التي ذكرت قصة المسيح الدجال.

فالروايات تناقضت في قصة الدجال من حيث شكله، وزمانه، وجهته، ولونه، وأملي أن ينظر القارئ العاقل إلى هذه التناقضات بعقل منطقي وليس بعقل تأويلي تلفيقي، لأن إبراز صورة صفاء الإسلام أهم من الدفاع عن مرويات تكومت بعد قرنين من الزمان على نزول رسالة الإسلام.

وبلمحة سريعة على مرويات الدجال في كتابي البخاري ومسلم سنجد الآتي:

رواية تصرح بأن الدجال هو ابن صياد أو ابن صائد ذلك الشاب اليهودي المقيم بين ظهراني المسلمين في المدينة. ورواية ثانية أنه مخلوق عظيم الخلق لم ير مثله. ورواية ثالثة تقول إنه دابة مربوطة في جزيرة، ورواية رابعة تقول إنه امرأة طويلة الشعر، وفي رواية خامسة أنه رجل قصير، وفي سادسة أنه أعور العين اليمنى، ورواية أخرى أعور العين اليسرى. وهكذا دواليك من تناقضات لا تصدر من إنسان عادي عاقل ناهيك أن تنسب هذه التناقضات إلى رسول الله المبلغ عن رب العالمين، ونحن أمام تلك الروايات بين خيارين أحدهما عقلاني والآخر لا عقلاني، فإما أن نقبل تلك الروايات بتناقضاتها ولا نعلم تحديدا بما نؤمن وكيف ستكون تلك الفكرة في أذهاننا، أو أن نرفضها حتى لا نحشر عقلنا بكم هائل من قضايا الغيب التي لا أساس لها من القرآن.

وهذه وقفة أخرى مع تلك الأحاديث والروايات التي أشرت إليها سابقا:

هل الدجال هو ابن صياد أم العملاق المقيد في الجزيرة؟

جاء في صحيح مسلم من حديث تميم بن أوس الداري (حديث الجساسة) أن الدجال مخلوق عظيم وجدوه في جزيرة “قال أي رسول الله: أتدرون لم جمعتكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة ولكن جمعتكم لأن تميماً الداري كان رجلاً نصرانياً فجاء فبايع وأسلم وحدثني حديثاً وافق الذي كنت أحدثكم عن مسيح الدجال، حدثني أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلاً من لحم وجذام فلعب بهم الموج شهرا في البحر ثم أرفؤا إلى جزيرة في البحر حتى مغرب الشمس فجلسوا في أقرب السفينة فدخلوا لجزيرة فلقيتهم دابة أهلب كثير الشعر لا يدرون ما قُبله من دبره من كثرة الشعر، فقالوا ويلك ما أنت فقالت أنا الجساسة…” [1].

وجاء في البخاري ومسلم أنه ابن صيّاد أو ابن صائد[2]، روى مسلم عن ابن المنكدر قال: رأيت جابر بن عبدالله يحلف بالله أن ابن صائد الدجال، فقلت: أتحلف بالله؟ قال: إني سمعت عمر يحلف على ذلك عند النبي فلم ينكره النبي[3]. جاء في الإصابة عن ترجمته: كان أبوه من اليهود، ولا يدري من أي قبيلة هو، وهو الّذي يقال إنه الدجال، ولد على عهد رسول اللَّه عليه الصلاة والسلام أعور مختونا، ومن ولده عمارة بن عبد اللَّه بن صيّاد، وكان من خيار المسلمين من أصحاب سعيد بن المسيّب[4].

ذكر مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري أنه قال: قال لي ابن صائد: مالي ولكم؟ يا أصحاب محمد! ألم يقل نبي الله إنه يهودي وقد أسلمت. وقال: ولا يولد له وقد ولد لي. وقال: إن الله قد حرم عليه مكة وقد حججت. قال فما زال حتى كاد أن يأخذ في قوله. قال فقال له (أي ابن صياد): أما والله إني لأعلم الآن حيث هو(الدجال) وأعرف أباه وأمه، فقال له: أیسرُّك أنك ذاك الرجل (أي الدجال)، فقال: لو عرض على ما كرهت[5].

وعند أبي دواد: شهد جابر أن الدجال هو ابن صائد. قلت: أنه قد مات، قال وإن مات! قلت: أنه قد أسلم. قال وإن أسلم! قلت: أنه قد دخل المدينة. قال: وإن دخل المدينة[6].

وجاء عند مسلم وأحمد عن النبي أنه قال: تسألوني عن الساعة؟ وإنما علمها عند الله، وأقسم بالله ما على الأرض من نفس منفوسة تأتى عليها مائة سنة[7]. ومعلوم أن الدجال المزعوم سواء أكان ابن صياد، أو صاحب الجساسة، أو غيره، ما هو إلا نفس منفوسة أي مات خلال تلك الأعوام الماضية!!

هل يخرج الدجال في زمن الصحابة أم آخر الزمان؟

جاء في سنن أبي داود والترمذي: أن النبي قال: لعله سيدركه من قد رآني وسمع كلامي[8]. ومعلوم أن أبا الطفيل آخر من مات ممن رأى النبي كما قال ابن عبد البر ولم ير الدجال. وفي الروايات السابقة التي قالت إنه ابن صياد يعني أنه كان في زمن النبي. وجاء في سنن أبي داود: أنه يأتي في آخر الزمان مع زمن نزول عيسى، تقول الرواية: ثم ينزل عيسى بن مريم عند المنارة البيضاء شرقي دمشق فيدركه – أي يدرك الدجال – عند باب لد فيقتله[9]. وجاءت الروايات عند البخاري ومسلم وغيرهم بالاستعاذة من فتنته حين يظهر “وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال”[10]، وهذا يعني أنه سيظهر آخر الزمان.

هل الجساسة دابة أم امرأة:

جاء في صحيح مسلم من حديث الجساسة قال:.. فلقيتنا دابة أهلب كثير الشعر لا يدرى ما قبله من دبره من كثرة الشعر، فقلنا: ويلك ما أنت؟ فقالت: أنا الجساسة[11] . وعند أبي دواد: فإذا أنا بأمراة تجر شعرها، قال ما أنت؟ قالت أنا الجساسة[12] . وفي رواية ابن حبان: فلقيتنا جارية تجر شعرها لا ندري مقبلة هي أم مدبرة قلنا: ما أنت؟ قالت: أنا الجساسة[13] ، وفي رواية الطبراني: فإذا هم بامرأة شعثة سوداء لها شعر منكر، فقالوا لها ما أنت؟ فقالت أنا الجساسة[14] .

هل عور الدجال في العين اليمنى أم اليسرى؟

جاء في صحيح مسلم: عن حذيفة قال: قال رسول الله: الدجال أعور العين اليسرى جفال الشعر..” [15]، وفي موضع ثانٍ في صحيح مسلم: وإن الدجال ممسوح العين عليها ظفرة غليظة مكتوب بين عينيه كافر[16] . وفي موضع ثالث في البخاري ومسلم: ألا وإن المسيح الدجال أعور العين اليمنى[17] .

رواية تقول بعور العين اليمنى ورواية أخرى تقول بعور العين اليسرى!

هل الدجال قصير أم عملاق وهل هو شاب أم شيخ وهل هو أحمر أم آدم؟

جاء في صحيح مسلم أن رسول الله قال عنه: إنه شاب قطط، كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن[18] . وعند البخاري: هذا الدجال أقرب الناس به شبها ابن قطن رجل من خزاعة[19] . وفي رواية: رجلا أحمر جعد الرأس[20] . وفي رواية لأحمد أنه: آدم جعد[21] . وفي رواية لأحمد وأبي داود: رجل قصير أفحج[22] . وعند أحمد وابن ماجه من حديث تميم الداري: فإذا هم بشيخ موثق شديد الوثاق[23] . ورواية مسلم من حديث تميم الداري المشهور بالجساسة قال: فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقا، وأشده وثاقا، مجموعة يداه إلى عنقه، ما بين ركبتيه إلى كعبية بالحديد[24] . وعند أحمد عن ابن عباس في حديثه عن رؤية النبي للدجال، قال: رأيته فيلمانيا أقمر هجانا إحدى عينيه قائمة كأنها كوكب دري كأن شعر رأسه أغصان شجرة[25] . وعند الطبراني: رأيت الدجال أقمر هجانا ضخما فيلميا كأن شعر رأسه أغصان شجرة[26] .

تأمل هذه التناقضات: أعظم إنسان رأيناه قط خلقا، ضخما، رجل قصير، شاب، شيخ، رجل أحمر (يعني أبيض)، رجل آدم (يعني أقرب للسواد)!!

هل يدخل الدجال مكة أم لا؟

جاء في البخاري ومسلم أن رسول الله قال:.. وأراني الليلة عند الكعبة في المنام، رأیت رجلاً وراءه (أي وراء عيسى) جعدا قططاً أعور عين اليمين كأشبه من رأیت بابن قطن، واضعا یدیه على منكبيى رجل یطوف بالبيت، فقلت من هذا؟ قالوا: المسيح الدجال[27] . وفي رواية أخرى للبخاري ومسلم عن رسول الله قال: ليس من بلد سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة[28] . تأمل التناقض: يطوف بالبيت، لا يدخل مكة!

أين سيقتل الدجال باللد أم بأفيق؟

جاء في مسلم: يقتل ابنُ مريم الدجالَ بباب لُدٍّ[29]. وجاء في مسند أحمد: ثم يسير حتى يأتي الشام فيهلكه الله عند عقبة أفيق[30] ، فهل سيقتل الدجال في اللد ببيت المقدس أم سيهلك بأفيق بإحدى نواحي الأردن؟

ومن الغرائب التي وجدتها في روايات الدجال ما رواه الحاكم وأحمد أن الدجال: له حمار يركبه عرض ما بين أذنيه أربعون ذراعا[31] . وزاد ابن أبي شيبة الدجال فقال: وإن أذن حمار الدجال تظل سبعين ألفا[32] .

فبأي دجال سأومن من بين تلك الروايات؟ وإن آمنت بإحداها فكيف سأعمل بالأخريات؟ هل سأرفضها أم أبقيها؟ لا شك أن من قبل واحدة فإنه سيرفض أخرى، وكل منهم رد روايات وأحاديث، أظن أن ذلك التناقض من أهم أمارات الوضع في الحديث في هذه القضية، وأن منشأها القصاص والوعاظ الذين اختلقوا قصصا لمآرب دنيوية، وإذا تأملنا الروايات التي تتحدث عمن سيتبع الدجال وأنهم من جهة معينة فربما نلمس أيضاً أسباباً سياسية للوضع، جاء في رواية مسلم أن رسول الله قال: يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفًا، عليهم الطيالسة[33]. وصدق الله القائل في كتابه:

﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ ‌اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82] 

*هذا البحث منقول من كتاب (عودة القرآن) للدكتور عبدالله القيسي

المراجعة والتدقيق: د جمال نجم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] صحيح مسلم ج4/ص2263

[2] صحيح البخاري ج5/ص2284- صحيح مسلم ج4/ص2240

[3] صحيح مسلم ج4/ص2243

[4] الإصابة في تمييز الصحابة ج5/ص192.

[5] صحيح مسلم ج4/ص2242.

[6] سنن أبي داود ج4/ص119.

[7] صحيح مسلم ج4/ص1966.

[8] سنن أبي داود ج4/ص241- سنن الترمذي ج4/ص507.

[9] سنن أبي داود ج4/ص117.

[10] صحيح البخاري ج1/ص463- صحيح مسلم ج1/ص412.

[11] صحيح مسلم ج4/ص2262.

[12] سنن أبي داود ج4/ص118.

[13] صحيح ابن حبان ج15/ص194.

[14] صحيح ابن حبان ج15/ص194

[15] صحيح مسلم ج4/ص2248.

[16] صحيح مسلم ج4/ص2249.

[17] صحيح البخاري ج3/ص1269- صحيح مسلم ج1/ص154.

[18] صحيح مسلم ج4/ص2252.

[19] صحيح البخاري ج3/ص1270- صحيح مسلم ج1/ص155.

[20] صحيح البخاري ج6/ص2607- صحيح مسلم ج1/ص156.

[21] مسند أحمد بن حنبل ج5/ص434.

[22] سنن أبي داود ج4/ص116- مسند أحمد بن حنبل ج5/ص324.

[23] سنن ابن ماجه ج2/ص1355- مسند أحمد بن حنبل ج6/ص373.

[24] صحيح مسلم ج4/ص2263.

[25] مسند أحمد بن حنبل ج1/ص374.

[26] المعجم الكبير ج11/ص313.

[27] صحيح البخاري ج3/ص1269- صحيح مسلم ج1/ص155.

[28] صحيح البخاري ج2/ص665- صحيح مسلم ج4/ص2265.

[29] صحيح مسلم ج4/ص2253.

[30] مسند أحمد بن حنبل ج5/ص221.

[31]المستدرك على الصحيحين ج4/ص575- مسند أحمد بن حنبل ج3/ص367.

[32] مصنف ابن أبي شيبة ج7/ص494.

[33] صحيح مسلم ج4/ص2266.

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.