حبل الله
عودة عيسى المسيح عليه السلام

عودة عيسى المسيح عليه السلام

د. عبدالله القيسي

مسألة نزول عيسى آخر الزمان من القضايا الغيبية العقدية التي لم يثبت فيها دليل قطعي الثبوت صريح الدلالة، فإما يكون الظن من جهة الثبوت كأحاديث الآحاد التي تحدثت عن نزوله آخر الزمان، أو الظن من حيث دلالة بعض الآيات التي استدلوا بها على نزوله آخر الزمان.

هناك عدة أسئلة وإشكالات مطروحة على هذه المسألة منها: إذا كان عيسى حيًا وسيعود آخر الزمان فهل سيعود نبيًا أم غير نبي؟ وفي كلا الحالتين إشكال! فإن نزل نبيًا فقد خالف ختم النبوة، وختم النبوة يعني عدم ظهور أي نبي بعد محمد خاتم النبيين، وإن نزل غير نبي فهذا غير معقول، إذ كيف يكون له إعجاز وهو غير نبي، وكيف تكون له حجة على الناس.

وسأناقش في هذا المبحث عدة قضايا متعلقة بالموضوع، أولها مسألة: وفاة عيسى، ثم الآيات التي استدلوا بها على نزوله آخر الزمان، ثم التعليق على أحاديث الآحاد التي ذكرت نزوله.

وفاة عيسى عليه السلام:

عرض القرآنَ الكريمَ لعيسى عليه السلام فيما يتصل بنهايةِ شأنه مع قومه في ثلاث سور: آل عمران: ٥٥. النساء: ١٥٧، المائدة: ١١٧، قرر فيها القرآنُ أنه توفي: فقال ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾، ﴿فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي﴾.

في سورة آل عمران قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ [آل عمران: ٥٢-٥٥].

وفي سورة النساء قوله تعالى: ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ، وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ، وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ، مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ، وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً. بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ، وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً﴾[النساء: ١٥٧-١٥٨].

وفي سورة المائدة قوله تعالى: ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ، وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ، فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾[المائدة: ١١٧].

وكلمة (توفي) وردت في القرآن كثيرًا بمعنى الموت، حتى صار هذا المعنى هو الغالب عليها المتبادر منها، ولم تستعمل في غير هذا المعنى إلا بجانبها ما يصرفها عن المعنى المتبادر. ومعنى ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ أي إني مستوفي أجلك ومميتك حتف أنفك، لا أسلط عليك من يقتلك، فالكلام كناية عن عصمته من الأعداء وما هم بصدده من الفتك به عليه السلام[1].

ولا سبيل إلى القول بأن الوفاة هنا مراد بها وفاة عيسى بعد نزوله من السماء آخر الزمان بناء على زعم من يرى أنه حي في السماء منذ حوالي ٢٠٠٠ عام، وأنه سينزل من السماء آخر الزمان، لأن الآية ظاهرة في تحديد علاقته بقومه هو لا بالقوم الذين يكونون آخر الزمان، وهم قوم محمد باتفاق لا قوم عيسى.

أما الرفع الذي ذكرته الآية معطوفًا على الوفاة (متوفيك ورافعك)، فإما أن يكون تاليًا للوفاة فيكون الرفع هنا هو رفع المكانة لا رفع الجسد، وقد جاء بهذا المعنى في القرآن، حاكيًا عن إدريس (ورفعناه مكانًا عليًا) فهل إدريس حي كذلك، لم يقل بهذا أحدٌ، ولو كان هناك حياة لنبي لكان أولاهم بذلك محمد كونه خاتم الأنبياء.

وإما أن لا يكون الرفع تاليًا للوفاة، وأن العطف لا يدل على ذلك، وهنا سيكون الرفع له حينها لإنقاذه من القتل أو الصلب، ثم عاد بعدها فتوفاه الله الوفاة الطبيعية، وسنجد هنا بعض الشواهد التاريخية الموجودة لدى أتباعه والتي تؤيد رؤيتهم له بعد عدة أيام من قصة الصلب والقتل، وبهذا يمكن القول إنهم لم يقتلوه ولم يصلبوه ولكن الله رفعه ونجاه منهم ثم توفاه بعد ذلك.

يقول ابن عاشور: “قوله: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ ظاهر معناه: إني مميتك، هذا هو معنى هذا الفعل في مواقع استعماله، لأن أصل فعل توفى الشيء أنه قبضه تاما واستوفاه. فيقال: توفاه الله أي قدر موته، ويقال: توفاه ملك الموت أي أنفذ إرادة الله بموته، ويطلق التوفي على النوم مجازا بعلاقة المشابهة في نحو قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ﴾ [الأنعام: 60]، وقوله: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ [الزمر: 42]. أي وأما التي لم تمت الموت المعروف فيميتها في منامها موتا شبيها بالموت التام كقوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ﴾، ثم قال: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾ فالكل إماتة في التحقيق، وإنما فصل بينهما العرف والاستعمال، ولذلك فرع بالبيان بقوله: ﴿فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾، فالكلام منتظم غاية الانتظام، وقد اشتبه نظمه على بعض الأفهام. وأصرح من هذه الآية آية المائدة: ﴿فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ﴾ لأنه دل على أنه قد توفي الوفاة المعروفة التي تحول بين المرء وبين علم ما يقع في الأرض، وحملها على النوم بالنسبة لعيسى لا معنى له لأنه إذا أراد رفعه لم يلزم أن ينام ولأن النوم حينئذ وسيلة للرفع فلا ينبغي الاهتمام بذكره وترك ذكر المقصد، فالقول بأنها بمعنى الرفع عن هذا العالم إيجاد معنى جديد للوفاة في اللغة بدون حجة، ولذلك قال ابن عباس، ووهب بن منبه: إنها وفاة موت وهو ظاهر قول مالك في جامع العتبية، قال مالك: مات عيسى وهو ابن إحدى وثلاثين سنة. قال ابن رشد في «البيان والتحصيل» : يحتمل أن قوله: مات وهو ابن ثلاث وثلاثين على الحقيقة لا على المجاز”[2].

الآيات التي اسُتدل بها على نزول عيسى:

أما الآيات التي رأى القائلون إنها تؤيد ما قالوه في عودة عيسى آخر الزمان فليس فيها من الوضوح ما يشبه الآيات التي صرحت بوفاته.

يستدل القائلون على عودة عيسى بآيتين:

الآية الأولى:

قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾[النساء: ١٥٩]. وهذه الآية لا تصلح دليلاً على ما ذهبوا إليه، وبيان ذلك كما يلي:

إن: يقولون إنها نافية، ففسروا (وإن من) أي وما من أحد من أهل الكتاب، فهو نكرة في سياق النفي، فيفيد العموم كما هو معروف من قواعد الأصول. ولكن الأقرب أن (إن) هنا هي المخففة من إنّ المشددة وقد جاءت في عدة مواضع كقوله تعالى: ﴿وَإنْ كُلاَّ لمَّا لَيُوَفَّيَنَّهُمْ﴾ ونحو ﴿وَإنْ كُلُّ ذَلِكَ لما مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُلِّ لَمَا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُون﴾. ومن: للتبعيض وليست مصدرية، وبهذا المعنى تكون الآية للتوكيد على أن فريقًا من أهل الكتاب سيؤمن به قبل موته.

أهل الكتاب: فسر بأن المقصود بهم كل أهل الكتاب من زمن عيسى حتى يوم القيامة (لقولهم بأن عيسى سينزل آخر الزمان)، ولو قلنا بهذا القول لوقعنا في إشكال واضح، وهو أننا سنخرج من الإيمان به كل من مات من أيام عيسى إلى وقت ظهوره حسب زعمهم، وسيدخل في الآية فقط جزء بسيط من أهل الكتاب الذين سيوجدون في آخر الزمان، وهذا يناقض كلامهم السابق، ويخالف العموم في الآية.

إذاً ما المقصود بأهل الكتاب هنا؟ أقول: المتأمل لسياق الآيات يجد أن المقصود بأهل الكتاب هم اليهود الذين عاصروا عيسى وشبه لهم عملية الصلب والقتل.

ليؤمنن به: يحتمل أن يكون الضمير في قوله (به) عائدًا على عيسى، يؤمنون بما جاء به من عند الله، أو يؤمنون (بأنه عبد الله ورسوله). أو على الرفع المذكور قبله ﴿بل رفعه الله إليه﴾ فيؤمنون بأن الله رفعه إليه أو على عدم القتل والصلب المذكور أساسًا في القصة ﴿وما قتلوه وما صلبوه﴾ فيؤمنون بعدم قتله وعدم صلبه وإنما شبه لهم، وأن الله نجاه من القتل والصلب، واستبعد أغلب المفسرين ما ذكره البعض من احتمال عودة الضمير على الله أو محمد لبعده عن سياق الآيات.

والأقرب هو الأول، وهو أن هناك فريق من أهل الكتاب (اليهود) سيؤمن بعيسى بعد تلك الحادثة التي شبهت لهم وهذا دليل على أنه لم يقتل ولم يصلب بل رفعه الله إليه ثم أعاده وآمن به فريق منهم ثم توفاه الله بعد إيمان ذلك الفريق.

قبل موته: قيل: قبل موت عيسى وهو الأقرب. وقيل: قبل موت ذلك الأحد أي الكتابي. وفي كلا الاحتمالين لا دليل لمن يقول إنه حي وسيرجع آخر الزمان، بل إن الآية بمفهومها تبين موته، وأنه قد مات، وأنهم قد آمنوا به قبل موته، وأن الزمن المستقبل الذي تتحدث عنه الآية هو الممتد من بعد حادثة الصلب إلى وقت وفاة عيسى، ولكن الروايات هي من جعل المفسرين يذهبون إلى هذا القول بحياة عيسى وهو ما لا تحتمله الآية.

وعلى هذا فإن أقرب تفسير لهذه الآية ما يأتي: إن هناك فريقا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ (اليهود) الذين عاصروا عيسى وشبه لهم عملية الصلب والقتل، سيؤمنون به وسينكشف لهم حقيقة ما جرى، وأن عيسى لم يصلب ولم يقتل، بل عاش بعدها حتى عرفوا ذلك وآمنوا به قبل موت عيسى الموت الطبيعي التي أشارت إليه الآية ﴿إني متوفيك﴾.

﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾: يشهد عليهم بما تظهر به حقيقة أمره معهم، كما حكى الله عنه في قوله: ﴿ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ﴾ فهو يشهد للمؤمنين منهم بالإيمان حال التكليف والاختيار وعلى الكافر بالكفر، إذ هو مرسل إليهم وكل نبي شهيد على قومه كما قال تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً﴾.

الآية الثانية:

قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾[الزخرف: ٦١]. وهذه الآية لا تصلح دليلاً على ما ذهبوا إليه، وبيان ذلك كما يلي:

وقد اختلف المفسرون في عودة ضمير (إنه) فقيل: أن الضمير يعود على القرآن للسياق العام للسورة. يقول ابن عاشور مناصرًا هذا الرأي: ” الأظهر أن هذا عطف على جملة ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ﴾[الزخرف: ٤٤]، ويكون ما بينهما مستطردات واعتراضًا اقتضته المناسبة. ومعنى تحقيق أن القرآن عِلْم للساعة أنه جاء بالدين الخاتم للشرائع فلم يبق بعد مجيء القرآن إلا انتظار انتهاء العالم. وإسناد ﴿عِلمٌ للساعة﴾ إلى ضمير القرآن إسناد مجازيّ لأن القرآن سبب العلم بوقوع الساعة إذ فيه الدلائل المتنوعة على إمكان البعث ووقوعه. وقد ناسب هذا المجازَ أو المبالغة التفريع في قوله: ﴿فلا تمترن بها﴾ لأن القرآن لم يُبق لأحدٍ مِرية في أن البعث واقع”[3].

ويرد ابن عاشور على من يرد الضمير على عيسى بقوله: “وتأولوه بأن نزول عيسى علامة الساعة، أي سبب علم بالساعة، أي بقربها، وهو تأويل بعيد فإن تقدير مضاف وهو نزول لا دليل عليه ويناكره إظهار اسم عيسى في قوله: ﴿ولما جاء عيسى﴾ [الزخرف: ٦٣]إلخ”[4].

وقيل: يعود على محمد للسياق العام للسورة أيضًا في جداله مع قومه. بتقدير: وقُل اتبعون، ومثله في القرآن كثير[5].

وقيل: إنه ضمير شأن. يقول ابن عاشور: “ويجوز عندي أن يكون ضمير (إنه) ضميرَ شأن، أي أن الأمر المهمّ لَعِلم الناسِ بوقوع الساعة. وعُدّي فعل ﴿فلا تمترن بها﴾ بالباء لتضمينه معنى: لا تُكذبُن بها، أو الباء بمعنى (في) الظرفية[6].

وقيل: يعود على عيسى لسياق الآيات قبله وبعده وعليه كثير من المفسرين. فكل الاحتمالات السابقة -عدا الأخير- لا تصلح دليلاً على قولهم إن عيسى حي الآن وأنه سينزل آخر الزمان. أما الاحتمال الأخير فقد اختلف المفسرون القائلون بأن عيسى علم للساعة على بيان كيف يكون علمًا لها على ثلاثة أقوال:

1- أنه بنزوله آخر الزمان علامة من علامات الساعة.

2- أنه بحدوثه من غير أب دليل على إمكان الساعة.

3- أنه بإحيائه الموتى دليل على إمكان البعث والنشور.

واحتمال الآية لهذه المعاني كلها لا يصلح دليلا للقائلين بنزول عيسى يجزمون به على من خالفهم، فكيف إذا كان احتمالهم -وهو الأول- هو الأضعف وأن الاحتمالات الأخرى أقوى، فأقوى وأقرب احتمال للآية هو القول الثاني: أي أن عيسى بحدوثه من غير أب دليل على إمكان الساعة.

وقد سرد الشيخ محمود شلتوت في فتاويه الأدلة التي ترجح هذا المعنى فقال:

1- أن الكلام مسوق لأهل مكة الذين ينكرون البعث ويعجبون من حديثه، وقد عنى القرآن الكريم في كثير من آياته وسوره بالرد عليهم واقتلاع الشك من قلوبهم. وطريقته في ذلك أن يلفت أنظارهم إلى الأشياء التي يشاهدونها فعلاً أو يؤمنون بها ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ﴾، ﴿وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ﴾، ﴿فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى﴾ وقد عرضت سورة الزخرف التي وردت فيها هذه الآية إلى هذا المعنى في أولها ﴿وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾. وهذه هي الطريقة المستقيمة المنتجة في الاستدلال المقتلعة للشك، أما أن يلفت أنظارهم إلى أشياء يخبرهم هو بها كنزول عيسى، وهي أيضًا في موضع الشك عندهم، ويطلب منهم أن يقتلعوا بهذه الأشياء ما في قلوبهم من شك فذلك طريق غير مستقيم، لأنه استدلال على شيء في موضع الإنكار بشيء هو كذلك في موضع الإنكار!

2- ومما يؤيد هذا قول الله تعالى تفريعا على أن عيسى علم للساعة: ﴿فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا﴾ فإنه يدل على أن الكلام مع قوم يشكون في نفس الساعة، والعلامة إنما تكون لمن آمن بها وصدق أنها آتية لا ريب فيها، أما الذي ينكر وقوعها أو يشك فيها فهو ليس بحاجة إلى أن يتحدث معه عن علامتها، بل لا يصح أن يتحدث في ذلك معه، وإنما هو بحاجة إلى دليل يحمله على الإيمان بها أولاً، ليمكن أن يقال له بعد ذلك: هذا الذي آمنت به علامته كذا.

3- ثم إنه من الأصول المقررة في فهم أساليب اللغة العربية أن الحكم إذا أسند في اللفظ إلى الذات، ولم تصح إرادتها معنى، قدر في الكلام ما كان أقرب إلى الذات وأشد اتصالاً بها. فإذا طبقنا هذه القاعدة على قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ﴾ وعلمنا أن ذات عيسى من حيث هي لا يصح أن تكون مرادة هنا، وأنه لا بد من تقدير في الكلام، ثم وازنا بين النزول والخلق من غير أب، وإحياء الموتى، فلا شك أننا نجد الخلق من غير أب أقرب هذه الثلاثة إلى الذات، لأنه راجع إلى إنشائه وتكوينه لا إلى شيء عارض له، وحينئذ يتعين الحمل عليه ويكون معنى الآية الكريمة: لا تشكّوا في الساعة، فإن الذي قدر على خلق عيسى من غير أب قادر عليها.

وبهذا يتبين:

أولاً: أن الإخبار بنزول عيسى لا يصلح دليلاً على الساعة يقتلع به ما في نفوس المنكرين لها من شك ويصح أن يقال عقبه ﴿فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا﴾.

وثانيًا: أن جعل عيسى بنزوله آخر الزمان علامة من علامات الساعة لا يستقيم هنا، لأن الحديث مع قوم منكرين للساعة فهم بحاجة إلى دليل عليها، لا مع قوم مؤمنين بها حتى تذكر لهم علاماتها.

وثالثًا: أن أقرب ما تحمل عليه الآية هو المعنى الثاني الذي بينا.

هذه هي الآيات التي أوردوها في شأن عيسى من رفعه أو نزوله.

ولا شك أن القارئ المنصف بعد عرضها على هذا النحو وتطبيقاتها على المبادئ التي ذكرنا لا يخامره شك في أنه (ليس في القرآن الكريم ما يفيد بظاهره غلبة ظن بنزول عيسى، فضلا عما يفيد القطع الذي يكوّن العقيدة، ويكفّر منكره كما يزعمون) [7] .

مع الأحاديث:

يقول الشيخ محمود شلتوت: “كل الأحاديث التي جاءت في هذا الموضوع لا تخرج عن كونها آحاد، وأحاديث الآحاد مهما صحت لا تفيد يقينا يثبت عقيدة، ولا يصح الاعتماد عليها في شأن المغيبات”[8] .

ويقول أيضًا: “وإنه ليؤسفني أن أرى قومًا تظاهروا بالانتساب إلى الدين والغيرة على أحاديث الرسول استباحوا لأنفسهم -في سبيل أغراضهم الدنيا- أن يصطنعوا كل أساليب التلبيس والتمويه في شأن أحاديث عيسى، التي لا يكون منها متواتر حتى على أوسع الآراء في تحققه، وهي مع أحاديتها يكثر ويشتد في معظمها ضعف الرواة واضطراب المتون ونكارة المعاني، فتراهم يقولون هي متواترة قد رواها فلان وفلان من الصحابة والتابعين، وذكرت في كتاب كذا وكتاب كذا من كتب المتقدمين، فإذا رأوا في بعضها ضعفًا أو اضطرابًا أو نكارةً حاولوا التخلص من ذلك فقالوا: إن الضعيف فيها منجبر بالقوي، وإن العدالة لا تشترط في رواة المتواتر. وهكذا يخلعون عليها ثوبًا مهلهلاً من القداسة، لا رغبة في علم ولا غيرة على حق، ولكن مكابرة وعنادًا، وإصرارًا على التضليل، وليقال على ألسنة العامة: إنهم حفاظ وإنهم محدثون!” [9].

وهناك من العلماء من أوّلَ أحاديث علامات الساعة كلها ومنها نزول عيسى. يقول التفتازاني في شرح المقاصد: “وأوّل بعض العلماء. الدجال بظهور الشر والفساد ونزول عيسى صلى الله تعالى عليه وسلم باندفاع ذلك وبدو الخير والصلاح” والتأويل يفقدها القطعية في الدلالة.

مع الإجماع:

ما يدعونه من إجماع على المسألة لا يصح دليلاً، ولم يحدث إجماع أساسًا، فالمسألة اختلف فيها العلماء قديمًا وحديثًا. أما قديما فيقول ابن حزم -في مراتب الإجماع- واتفقوا على “أنه لا نبي مع محمد عليه الصلاة والسلام ولا بعده أبدًا إلا أنهم اختلفوا في عيسى عليه السلام أيأتي قبل يوم القيامة أم لا وهو عيسى بن مريم المبعوث إلى بني إسرائيل قبل مبعث محمد عليه السلام”[10] فذكر الإجماع على أنه لا نبي بعد محمد، وأما عودة عيسى فمختلف فيها. ومن المعاصرين الذين لم يروا عودة المسيح الأستاذ الإمام محمد عبده، والشيخ رشيد رضا، والشيخ المراغي، والشيخ شلتوت، والشيخ الطاهر ابن عاشور، والدكتور طه جابر العلواني، والدكتور حسن الترابي وغيرهم.

يقول الشيخ شلتوت: “إن الذين ذهبوا إلى حجية الإجماع لم يتفقوا على شيء يحتج به فيه سوى الأحكام الشرعية العملية، أما الحسيات المستقبلة من أشراط الساعة وأمور الآخرة فقد قالوا: (إن الإجماع عليها لا يعتبر من حيث هو إجماع لأن المجمعين لا يعلمون الغيب، بل يعتبر من حيث هو منقول عمن يطلعه الله على الغيب، فهو راجع إلى الإخبارات فيأخذ حكمها، وليس من الإجماع المخصوص بأمة محمد صلى الله عليه وسلم لأن الحسي المستقبل لا مدخل للاجتهاد فيه، فإن ورد به نص فهو ثابت به ولا احتياج إلى الإجماع، وإن لم يرد به نص فلا مساغ للاجتهاد فيه) وعلى هذا تخضع جميع الأخبار التي تتحدث عن أشراط الساعة ومن بينها نزول عيسى إلى مبدأ القطعية والظنية في الورود والدلالة، .. وعلى فرض أن أشراط الساعة مما يخضع للإجماع الذي اصطلحوا عليه نقول: إن نزول عيسى قد استقر فيه الخلاف قديماً وحديثاً: أما قديماً فقد نص على ذلك ابن حزم في كتابه (مراتب الإجماع) حيث يقول: (واتفقوا على أنه لا نبي مع محمد صلى الله عليه وسلم ولا بعده أبداً، إلا أنهم اختلفوا في عيسى عليه السلام: أيأتي قبل يوم القيامة أم لا؟ وهو عيسى بن مريم المبعوث إلى بني إسرائيل قبل مبعث محمد عليه السلام) كما نص عليه أيضاً القاضي عياض في شرح مسلم، والسعد في شرح المقاصد، وقد سقنا عبارته.. وهي واضحة جلية في أن المسألة ظنية في ورودها ودلالتها!

وقد قرر العلماء قديماً وحديثاً أن مسألة عودة عيسى مسألة خلافية، وأن الآيات المتصلة بها ظاهرة في موته عليه السلام موتاً عادياً، وأن الأحاديث الواردة فيها أحاديث آحاد لا تُثبت عقيدة وهي مع هذا تحتمل التأويل، وأنه لا تكفير لمسلم بإنكار رفع المسيح أو نزوله، فأين مع هذا كله ما يدعونه من إجماع؟”[11].

*هذا البحث منقول بتصرف طفيف من كتاب (عودة القرآن) للدكتور عبدالله القيسي

المراجعة والتدقيق: د جمال نجم

*وللمزيد حول هذا الموضوع ننصح بالاطلاع على مقالة (عقيدة نزول المسيح في آخر الزمان) على الرابط التالي https://www.hablullah.com/?p=1288

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] انظر تفسير الألوسي ج3/ص179.

[2] تفسير ابن عاشور 3/257.

[3] التحرير والتنوير ج13ص236.

[4] التحرير والتنوير ج13ص236.

[5] انظر التحرير والتنوير ج13ص236.

[6] انظر التحرير والتنوير ج13ص236.

[7] انظر كتاب الفتاوى للشيخ شلتوت ص 75-77.

[8] انظر كتاب الفتاوى للشيخ شلتوت ص 77.

[9] الفتاوى للشيخ شلتوت ص 77.

[10] مراتب الإجماع لابن حزم ص173.

[11] الإجماع وثبوت العقيدة للشيخ شلتوت، مجلة الرسالة العدد 519 ص 9-11.

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.