حبل الله
تمني ما عند الآخرين من النعم

تمني ما عند الآخرين من النعم

السؤال:

لدي سؤال عن معنى هاتين الآيتين:

(وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) سورة طه 131

(وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ، لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا، وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ، وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ، إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) سورة النساء 32

هل يمكن فهم الآيات على أنها تنهى عن تمني شيء عند شخص آخر، يعني مثلا رأيت سيارة جميلة لأحدهم أو منزلا جميلا أو غير ذلك وتمنيت مثله لنفسي هل يكون ذلك منهيا عنه؟

الجواب:

إن الآيتين لا تتحدثان عن نفس الأمر ففي قوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ، لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا، وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ، وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ، إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ النساء (32) جاء النهي عن تمني الرجال والنساء ما فضل الله تعالى به بعضهما على بعض من صفات وقدرات وتكليفات ومن ثم اختلاف في توزيع أنصبة الميراث ولهذا فالآية الكريمة لا تندرج تحت سؤال السائل الكريم من تمني ما عند الآخرين والذي له في كتاب الله تعالى شقين أحدهما مباح ومطلوب فيه السعي والآخر منهي عنه:

  • فالمباح الذي يحتاج إلى السعي والدعاء هو الطيبات من الرزق التي لا تلهي صاحبها عن العمل الصالح بل إنه يكون وسيلة للتقرب منه تعالى بالإنفاق منه في سبيله في شتى وجوه البر والإسراع به في الخيرات، ولا حدود للسؤال فيه ولو دعاء بكنوز الدنيا، أي أن المؤمن يستطيع أن يدعو ربه بكل ما يتمناه من الذرية والمال والملك.

ولنا الأسوة الحسنة في نبي كريم دعا ربه بأن يهبه ملكًا لا يكون مثله لأحد بعده وهو دعاء سليمان ﷺ : ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي، إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ ص (35) وحتى لو كان هدف دعائه توبته عما صدر منه من خطأ وقع فيه واستغفر عنه وأراد أن يثبت لربه بالدليل والبرهان أنه مهما بلغ ملكه لن يغويه ولن يكون سببًا في ضلاله وأنه سيكون سبيله في نشر الحق والعدل من خلال هذا الملك العظيم، ولهذا فقد استجاب له ربه بتسخير الرياح والجن والشياطين وعلمه منطق الطير.. إلخ تلك النعم التي لم تكن لأحد بعده.

فلا يمنع أن يدعو المؤمن ربه بكل ما يجول في خاطره ويتمنى تحقيقه مادام لا يتعدى على حق أحد ولا يتمنى زوال النعم عن أحد ولا يدعو بالمال والملك ليتجبر على الناس.

فهؤلاء من يتمنون حسنة الدنيا ولكنهم لا يقدمونها على آخرتهم ولا يشترون بها ثمنًا قليلًا كمن قيل فيهم: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ البقرة (201) وفي الوقت نفسه إذا مسهم الخير لا يمنعونه وإذا مسهم الشر لا يجزعون منه ويكونون في حالة الرضا والشكر على ما أصابهم في سبيل الله تعالى.

وقد ضرب لنا القرآن الكريم عليهم نماذج يقتدى بها كأنبياء ورسل آتاهم الله تعالى الملك والحكم والنبوة فرعوها حق رعايتها وابتغوا بها رضوانه سبحانه في الدنيا والآخرة، وبآخرين ابتلاهم ربهم بالمرض أو الفقد أو الحرمان وكان يقينهم أنه: ﴿لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ فاستجاب لهم ربهم جزاء صبرهم وإسراعهم في الخيرات ودعائهم له جل جلاله رغبًا ورهبًا فرزقهم ما تمنوا وشفي مريضهم وأنجب عقيمهم ونجا مكروبهم.

  • وهذا بخلاف القسم الآخر وهو الذي ربما يدعو و ﴿يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ البقرة (200) وهؤلاء يتمنون ما عند الآخرين ولديهم الاستعداد لفعل أي شيء في مقابل الحصول على ما يتمنون حتى ولو اتبعوا خطوات الشيطان، لدرجة أنهم يشترون ديناهم بأخراهم فيكفرون بربهم ويبخلون بما آتاهم الله من فضله، وهؤلاء هم الذين نهى الله تعالى رسوله بعدم النظر إلى ما عندهم وبيّن السبب في ذلك أن ما هم فيه من النعيم ورغد العيش إنما هو فتنة لهم وأنهم ليس لهم في الآخرة من نصيب: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ، وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ﴾ طه (131)

وقد نبأنا العليم الخبير في كتابه أن هناك فئة من هؤلاء يعيشون الحياة الزخرفية التي وصفها في قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ. وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ﴾ الزخرف (34) وبيّن لعباده المتقين أن تلك النعم زائلة وأن النعيم الحقيقي سيكون خالصًا لهم يوم القيامة” ﴿وَزُخْرُفًا، وَإِنْ كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ الزخرف (35)

وكذلك ضرب لنا تعالى في كتابه نماذج من هؤلاء كصاحب الجنتين في سورة الكهف وكأهل الجنة في سورة القلم الذين كانت النعم سببًا في كفرهم أو بخلهم أو بغيهم كما في قصة قارون: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ، وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ﴾ القصص (76) والذي تمنى مكانه من يريدون الحياة الدنيا وزخرفها بغض النظر عن كيفية الحصول عليها: ﴿فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ، قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ القصص (79)

وأما من علم حقيقة الدنيا ولم يغتر بما عند قارون الذي بغى بكنوزه وكفر بأنعم ربه فكان قولهم: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾ القصص (80) وبعدما خُسف به وبداره الأرض عدل المغترون به عن رأيهم: ﴿وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ، لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا، وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ القصص (82).

وختامًا:

إن الدعاء بالخير والنعم هو دعاء الرسل والأنبياء كدعاء الخليل: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ…﴾ البقرة (126) و ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ الشعراء (83) ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ، قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً، إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ آل عمران (38) وهو دعاء المؤمنين في كل زمان ومكان: ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ الفرقان (74) فلا حرج أن يدعو المؤمن بكل ما يتمنى مادام لا ينسى قول ربه: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ، وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا، وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ، وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ، إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ القصص (77)

وليعلم أن الله تعالى يتبلى عباده بالخير والشر وبالعطاء والمنع، فمن آمن وعمل صالحًا وشكر زاده في الدنيا والآخرة: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ النحل (97) ومن كفر فلن ينفعه ماله ولو كانت له الدنيا كلها: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ المائدة (36)

فرزقه تعالى وعطاؤه في الدنيا لجميع خلقه مؤمنهم وكافرهم: ﴿كُلًّا نُمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ، وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ الإسراء (20)

مع ملاحظة أن الكفر لا يقف فقط عند حد السجود لصنم أو ادعاء ولد لله تعالى، وإنما الجحود بأنعم الله تعالى وعدم الشكر كفر، والبخل به كفر، وترك آيات الكتاب البينات واتباع الظنون والافتراءات كفر، والظلم والتجبر والفساد كفر، والهلع والجزع عند المصيبة كفر، والمنع عند الخير كفر.

ويعرف الإنسان نفسه من أي الفريقين بأن يضع نفسه في ميزان هاتين الآيتين قبل الآية السابقة: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا. وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا. كُلًّا نُمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ….﴾ الإسراء (18: 20)

وأن ينظر في مرآته عندما يبتلى بالإكرام والنعم ويرى إن كانت نفس صورته عند ابتلائه بضيق الرزق، وأن يحتفظ بذكرى تلك الصورة يوم تعرض عليه فإما أن: ﴿يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ الفجر (24) وإما أن يُنادى عليه بـــ ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ…….. وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ الفجر (27: 30)

الباحثة: شيماء أبو زيد

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.