السؤال:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان ) رواه مسلم.
كيف يمكننا فهم هذا الحديث؟، قرأت تفاسير عديدة ومختلفة، فهناك من يقول هو مختص بالحكام، وهناك من يقول هو مرتبط بوجود ضرورة تستدعي التدخل باليد كحالات اغتصاب أو قتل مثلا، و هناك من يقول التدخل باليد معناه عمل أي شيء – غير الضرب – يؤدي لزوال المنكر.
فما هو رأيكم ، هل يمكن أن يكون مختصا بالحاكم فيلزمه منع الناس عن فعل الحرام/المنكر بالقوة مثلا؟ أو يكون للأفراد فيتم مقاطعة فاعل المنكر مثلا أو الامتناع عن بيع شيء معين له؟ مثلا عدم بيع أكواب لشخص يشرب الخمر كنوع من أنواع الردع باليد من غير ضرب، أو عدم بيع سيارة لشخص يعمل في مهنة محرمة، إلخ….
الجواب:
الحديث الشريف الذي ذكره السائل الكريم هو حكمة استنبطها نبينا الكريم من مجموع الآيات القرآنية الداعية إلى إقامة هذه الفريضة وعدم التخلي عنها، ومن ذلك قوله تعالى في وصف المؤمنين وموجها لهم:
﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾ [التوبة: 71]
﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 104]
وقوله تعالى على لسان لقمان الحكيم:
﴿يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [لقمان: 17]
ويعتبر هذا الحديث توجيا نبويا مهما في فهم فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن تطبيقه يتعلق بحالة الآمر والمأمور من حيث المقام والمناسبة والمآل.
- الحديث ومراتب تغيير المنكر:
- يُبيّن الحديث ثلاثة مستويات لتغيير المنكر: باليد، وباللسان، وبالقلب، وهو توجيه نبوي يؤكد ضرورة التدخل قدر المستطاع لمنع وقوع المنكر أو الحد من تأثيراته.
- “التغيير باليد” لا يعني بالضرورة الضرب أو العنف، وإنما يُقصد بها التدخل العملي، ويشمل ذلك أي فعل مشروع يمكن أن يؤدي إلى إيقاف المنكر.
- التغيير باليد وخصوصيته:
- إن “التغيير باليد” ينطبق غالبًا على من له سلطة أو ولاية، سواء كانت سياسية أو قضائية أو اجتماعية أو أسرية، كالحكام وأصحاب السلطة في المؤسسات، وأصحاب النفوذ الاجتماعي، إذ يستطيعون فرض القوانين وإيقاف المنكرات العامة بالتدخل المباشر إذا لزم الأمر.
- لكن هناك اجتهادات تشير إلى إمكانية تدخل الأفراد بقدر الإمكان حسب قدرتهم، مثل الامتناع عن بيع الأدوات أو المنتجات التي تُستخدم للمعاصي، مما يُعد من تغيير المنكر باليد بطريقة غير عنيفة.
- التغيير باليد للأفراد:
- يمكن للأفراد المشاركة في التغيير من خلال “أفعال مؤثرة” لا تتضمن العنف، مثل المقاطعة أو الامتناع عن بيع أو تقديم شيء يُستخدم في المعصية.
- مثال ذلك الامتناع عن بيع أكواب أو أدوات تستخدم للخمر، أو الامتناع عن تقديم خدمات لمن يستخدمها في مهنة محرمة، أو بيع السلاح للمعتدين والظالمين، مما يدخل تحت باب التأثير “باليد” بطريقة غير مباشرة. ويمكن أن نستدل عل هذا النوع من التدخل بنهي القرآن عن التعاون على الإثم والعدوان:
﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2]
- التغيير باللسان والقلب:
- في حال عدم القدرة على التغيير العملي، يأتي دور التغيير باللسان، كالنصح والتوجيه بأسلوب حكيم ومناسب. قال الله تعالى:
﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125]
- أما في حال عدم القدرة على التغيير باللسان، فالتغيير بالقلب يعني الابتعاد عن المنكر وعدم تقبله، وهذا أضعف الإيمان. ومن ذلك قوله تعالى:
﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ [النساء: 140]
باختصار، يمكن للأفراد التدخل بطرق سلمية وغير عنيفة ضمن إمكاناتهم ووفق السياق الذي يعيشون فيه، في حين أن للحاكم دورًا أوسع في فرض القوانين لحماية المجتمع من المنكرات الكبيرة التي تمس المصلحة العامة. قال الله تعالى مخاطبا نبيه الكريم بصفته حاكما:
﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾ [المائدة: 49]
*وللمزيد حول هذا الموضوع ننصح بالاطلاع على المقالات التالية:
دعوى التعارض بين الحرية الشخصية وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر https://www.hablullah.com/?p=9073
مسؤولية الفرد المسلم تجاه أخطاء الآخرين https://www.hablullah.com/?p=9010
هل من وظيفة الدولة إلزام الناس بالعبادات؟ https://www.hablullah.com/?p=6529