المسلمون اليوم
إنّ ظهور المذاهب وسط بيئة نزاعية منذ عهد الصحابة (رضوان الله عليهم)، وإهمال تلك المذاهب لبعض المواضيع العلمية الهامة في الإسلام أدى إلى فتح باب الشرك الذي لا يغفره الله تعالى، ومع ذلك لم يعد يُدرس ضمن الموضوعات الإعتقادية التي تهدف لتصحيح الإيمان وعصمته من التحريف. ولم يقف علماء الكلام على موضوع «دعاء غير الله» بالرغم أن كثيراً من الآيات القرآنية تعتبر دعاء غير الله سمة ظاهرة للشرك والمشركين، ولم يذكر الدعاء ولا الإستعانة بغير الله في كتب العقيدة، وكلاهما من الموضوعات الهامة في العقيدة الإسلامية.
ولم يقم أي من الأنبياء والرسل بإثبات وجود الله تعالى، لأنه معلوم للجميع. والموضوع الأساسي الذي قام الأنبياء والرسل باثباته؛ هو أن « لا إله إلا الله». ولكن علماء الكلام اشتغلوا بإثبات وجود الله ووحدانيته. فأصبح إثبات واجب الوجود هو الموضوع الأساسي في علم العقيدة. فتحولت عقيدة «لا إله إلا الله» إلى عقيدة «الوجود والوحدانية». وبناء على ذلك حصل تخبط ذهني في تعريف الإسلام وتفريقه عن الديانات الأُخرى، وكذلك في تعريف الكفر؛ بأنه إنكار وجود الله أو وجود خالق الكون بالرغم أنه لا أحد في العالم ينكر وجود الله ووحدانيته.
المشرك؛ يؤمن بوجود الله ووحدانيته، ولكنه يزعم أن الله بعيد عنه فيتخذ واسطة بينه وبين الله مما يزعم أنه يقربه إلى الله بعد أن يعطيها بعضاً من أوصاف الله تعالى، فيجعل الواسطة إلها له من دون الله. كما يتخذ الوسائط للوصول إلى حضرة الملوك. فزَعْمُ النصارى كون عيسى ابن الله، ومشركي مكة أن الملائكة بنات الله، وكذلك زعم الذين يستعينون بأرواح العظماء على أنهم أولياء الله من هذا القبيل.
يقول الله تعالى عن النصرانية: «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ. لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» ( المائدة، 5/72-73).
مع أنهم يؤمنون بأن الله واحد، ولا إله غيره.[1] وهو حق وهو وحده خلق الأرض والسموات ووضع النظام للخلق وهو وحده يحكم على الكون.[2] وهو قريب من الناس.[3] وعليم بكل شيء.[4] وهو موجود في كل زمان.[5] لا أول لوجوده ولا آخر. كل شيء مدين له بوجوده، وكل ما نملكه يأتي منه.[6] وهو موجود بذاته.[7] وسمي بـ «الأب» لأنه مبدأ كل شيء، وسلطة الحب الإلهية وأن محبته تنزل على جميع أولاده. والله ليس بذكر ولا بأنثى. الله هو الله.[8]
ورغم قولهم هذا فهم كُفّار؛ لأنهم يزعمون أن الله بعيد عنهم، فقد وصفوا عيسى وروح القدس بصفات الله تعالى ثم جعلوا من عيسى عليه السلام وسيطا بينهم وبين الله تعالى. يقول النصارى «أن عيسى يدافع عن النصارى عند الأب. وهو حي ليكون وسيطا لهم. وهو مستعد دائما للدفاع عنهم عند الله»[9] ويستطيع أن يخلص من تقرب إلى الله به.[10]
تحتوي رسالة بولس إلى الرومية على هذه العبارات المتعلقة بروح القدس: «وَكَذلِكَ الرُّوحُ أَيْضاً يُمِدُّنَا بِالْعَوْنِ لِنَقْهَرَ ضَعْفَنَا. فَإِنَّنَا لاَ نَعْلَمُ مَا يَجِبُ أَنْ نُصَلِّيَ لأَجْلِهِ كَمَا يَلِيقُ، وَلَكِنَّ الرُّوحَ نَفْسَهُ يُؤَدِّي الشَّفَاعَةَ عَنَّا بِأَنَّاتٍ تَفُوقُ التَّعْبِيرَ. عَلَى أَنَّ فَاحِصَ الْقُلُوبِ يَعْلَمُ قَصْدَ الرُّوحِ، لأَنَّ الرُّوحَ يَشْفَعُ فِي الْقِدِّيسِينَ بِمَا يُوَافِقُ اللهَ. وَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ اللهَ يَجْعَلُ جَمِيعَ الأُمُورِ تَعْمَلُ مَعاً لأَجْلِ الْخَيْرِ لِمُحِبِّيهِ، الْمَدْعُوِّينَ بِحَسَبِ قَصْدِهِ. »[11]
ويخبر القرآن الكريم عن مشركي مكة زعمهم في أصنامهم؛ بقوله: «أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ» (الزمر، 39/3).
فالمشركون يؤمنون بأن آلهتهم شفعاء لهم عند الله، يقول الله تعالى: «وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ » (يونس، 10/17-18).
هل يمكن القول بأن النصارى ومشركي مكة يؤمنون بالله وحده ؟
الإختلاط الذهني الذي نشأ عن تلك الظروف أدى بالمفسرين إلى الإبتعاد عن منطوق الآيات المتعلقة بالشرك فوقعوا في حالة من الغموض، ومهدوا طريقا إلى الخرافة.
فيذكر القرآن الكريم كلمة العبادة والدعاء. فالعبادة هي التعبد، أما الدعاء فهو النداء والإستعانة. وبين هاتين الكلمتين علاقة وثيقة؛ لأن المعبود هو من يستجيب الدعاء. قال النبي صلى الله عليه وسلم «الدعاء مُخ العبادة».[12] ولكن لا يصح أن يفسر الدعاء بالعبادة، لأنه يسبب غياب المعنى الدقيق الذي تشمله كلمة الدعاء – وهو الإستغاثة التي هي أعلى درجات العبادة. ونرى غياب هذا المعنى من خلال تفسير الآيات الرابعة والخامسة والسادسة من سورة الأحقاف؛ قال الله تعالى:
«قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ. وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ. وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ» (الأحقاف، 46/4-6).
وتفسير "الدعاء" بالعبادة يؤدي إلى تحريف في المعنى المقصود من الكلمة، وينشأ منه الأخطاء، وتفقد الآية معناها الأصلي. ويمكن أن نرى هذا الفرق من خلال قراءتنا لكتاب معاني القرآن بالتركية والذي أعده ونشره وقف الديانة التركية، وهي أكثر معاني القرآن الكريم انتشارا وتداولا بين الناس في تركيا.
وفي ترجمة هذه الآيات قد استعملت كلمة «الدعاء» بدل كلمة «العبادة» و كلمة «ما» بدل كلمة «من» ثم فُسرت بأنها الأصنام، فُُحرف معنى الآيات تماما. وبين من يعبد الأصنام ومَن يدعو مَن لا يستجيب له إلى يوم القيامة بون شاسع. وكان هذا التحريف نتيجة الأخطاء الجمة التي وقع فيها المفسرون في تفسير الآيات. وهي كالتالي:
تفسير كلمة «الدعاء» بـ «العبادة»
تفسير «من» التي تستعمل للعقلاء بـ «ما» التي تستعمل لغير العقلاء.
تفسير ضمير الجمع المذكر «هم» ب«هي»
الترجمة الخطأ لواو الجماعة في «غافلون» وقد قصد بها الأشياء غير العاقلة، لأن «من» قد فسرت بـ «ما»؛ أي الأشياء التي تعبد من دون الله فهي غافلة عن دعائهم إلى يوم القيامة؛ وهو خطأ بلا ريب.
الأصنام هي أشياء بدون روح. أما الذي يبعث يوم القيامة ويجيب من يدعوه هو الإنسان. لذا عبارة «ما لا يستجيب لهم إلى يوم القيامة» ليست صحيحة. فهذه الآيات قد ترجمت وهي مليئة بالأخطاء التي لا يمكن تبريرها. كما يوجد هذا الخطأ في الكتب والتفاسير العربية.[13]
ومثل هذه الأخطاء الفكرية في التفاسير والمعاني المترجمة، جاءت من زيارة الأضرحة؛ وتصور أن الله تعالى أعطى هذه الأضرحة بعض التصرف، وميّزها بخصائص، وأصحابها هم الشفعاء، ولا نستطيع أن نتوجه إلى الله مباشرة لأننا مخطئون، فنتجه إلى الله بواسطتهم فيقبل مطالبنا.[14]
وبسبب هذه الأخطاء عُدّ من مات من العلماء الكبار أولياء لله، وأُعطَوا الخصائص والتصرفات المزعومة لمحاولة الوصول بهم إلى الله.
[1] التعاليم الدينية والأخلاقية للكنيسة الكاثوليكية، الفصل 200 و 212. وقد استعمل هنا لفظ الإله بدلا من لفظ الجلالة «الله».
[2] التعاليم الدينية والأخلاقية للكنيسة الكاثوليكية، الفصل 215، 216، و 222.
[3] التعاليم الدينية والأخلاقية للكنيسة الكاثوليكية، الفصل 206.
[4] التعاليم الدينية والأخلاقية للكنيسة الكاثوليكية، الفصل 208.
[5] التعاليم الدينية والأخلاقية للكنيسة الكاثوليكية، الفصل 212.
[6] التعاليم الدينية والأخلاقية للكنيسة الكاثوليكية، الفصل 224.
[7] التعاليم الدينية والأخلاقية للكنيسة الكاثوليكية، الفصل 212.
[8] التعاليم الدينية والأخلاقية للكنيسة الكاثوليكية، الفصل 239.
[9] التعاليم الدينية والأخلاقية للكنيسة الكاثوليكية، الفصل 519.
[10] التعاليم الدينية والأخلاقية للكنيسة الكاثوليكية، الفصل 2634.
[11] الإنجيل، الرسالة إلى رومية 8/26-28. التعاليم الدينية والأخلاقية للكنيسة الكاثوليكية، الفصل 741.
[12] الترمذي، الدعاء رقم الحديث: 1.3371.
[13] أُنظر مثلا في تفسير الجلالين، والنسفي، والقرطبي، والطبري وتفسير فخر الدين الرازي.
[14] خير الدين قارامان، زيارة القبور في رمضان، ركن الفقه من جريدة يني شفق بتاريخ 10.12.2000.
أضف تعليقا