مفهوم الإرادة والشيء والفطرة في القرآن الكريم
شيء وفطرة كلمتان توجد بينهما علاقة وثيقة. فالشيء هو الموجود؛ أما الفطرة، فهي مجموعة القوانين التي بها تتكون البنية الأساسية للموجودات، وهذه الموجودات تتطور وتتغير في ظل تلك القوانين. وتسمى تلك القوانين بـ "سنة الله تعالى". وللقدر والإرادة أهمية كبيرة في تكوين الشيء. فالقدر هو المعيار والمقياس في الموجودات. أما الإرادة فهي الطلب واتخاذ القرار في إيجاد شيء.
وكلمة "الشيء" مصدر واسم في الوقت نفسه. والمصدر هو ما اشتقت منه الكلمات. وقد اشتق من الشيء مصدرا ميميا: (مشيئة). ولفظ المشيئة لم يرد في القرآن الكريم. وقد ورد هذا اللفظ في بعض الأحاديث الضعيفة والأعمال الأدبية. وقد استعملت كلمة المشيئة والتي لم يعرفها العرب الأوائل _ بمعنى الإرادة. ذلك أن كلمة شاء استعملت بمعنى أراد حتى قيل إنه "لا فرق بين المشيئة و الإرادة عند أهل السنة".
غير أن كلمة "شاء" اشتقت من كلمة شيء كما اشتقت منها كلمة "مشيئة". ولذلك لا بد من أن يكون كلاهما بمعنى شيء. ولكن ما حصل كان أن حرفت كلمة "شاء"، وقد أدى هذا التحريف إلى أن يخطئ المسلمون في فهم كلمة "شيء". كما أدى هذا التحريف إلى فصل العلوم الإسلامية عن الحياة اليومية للمسلمين؛ أي فصل الدين عن الفطرة. ولهذا السبب نرى أن الموضوع مهم جدا.
أ. شيء
تعني كلمة "شيء" في القرآن الكريم ما هو موجود فعلا أو ما قُدِّرَ إيجادُه. قال الله تعالى: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (يس، 36 / 82).
ذلك أنّ الشيء يتمّ تقديره بالإرادة وبعد الإرادة يوجد الشيء بالفعل.
وكلمة "شيئا" في الآية السابقة مصدر، والتنوين فيها عوض عن الإضافة وعلى هذا فالعبارة كالتالي: "شيءَ شيءِ" فحذف المضاف إليه – وهي مفعول به لفعل شيء – وعوض منها التنوين.
وكذلك كلمة "كن" في الآية السابقة، ليست من الأفعال الناقصة بل هي فعل تام وفاعله الضمير المستتر العائد إلى "شيء". وكذلك الحال في "فيكون". وعلى هذا يكون معنى الآية: إذا أراد إحداث شيء وتكوينه. لأن "كن" الفعل التام بمعنى كوِّن أي الشروع في التكوين، أو أحْدُث أي الظهور في عالم الوجود. وعلى هذا أن كلمة "شيء" تعني الإحداث والتكوين.
ومن كلمة "شيء" فعل شاء. وأصلها شَيَأَ. قلبت الياء ألفا لأن ما قبلها مفتوح. والفعل والمصدر لا يختلفان في المعنى. غير أن الفعل يدل على أحد الأزمنة الثلاثة. وعلى هذا فـ "شاء" بمعنى أحدث شيئا.
و"شاء" من الأفعال المتعدية يتعدى إلى مفعول. وكثيرا ما يحذف المفعول لأنه يفهم من سياق الكلام. وإذا كان الكلام من الإيمان فيكون المفعول به إيمانا وإذا كان من الكفر يكون كفرا او شيئا آخر حسب سياق الكلام.
يظهر الشيء في عالم الوجود بعد ان تُهيَّأ له الشروط والتقادير. وإذا كان الكلام في تقدير الشيء كان معنى شاء؛ قدَّر الشيء وكونه. وإذا كان الشيء قد قدِّر فعندئذ يكون شاء؛ بمعنى "كوَّن الشيء".
وكل تكوين يبدأ بأمر الله. ولا يوجد شيء إلا بأمر من الله تعالى. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ماشاء الله كان وما لم يشأ لم يكن". فمعنى الحديث؛ ما أوجده الله تعالى كان وما لم يوجدْه لم يكن.
ونورد بعضا من الآيات المتعلقة بالموضوع:
قال الله تعالى: «إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا» (غلإنسان، 76 / 29 – 30).
وقال أيضا: «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ . لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ . وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ» (التكوير، 81 / 25 – 29).
ونقف الآن عند تفسير الآيات.
فاعل "شاء" في قوله تعالى: « لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ» هو (مَن) أي الإنسان، و« أَن يَسْتَقِيمَ» مفعول به. ومعنى الآية كالتالي: لِمَن شَاء أي كوَّن منكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ أي قدر الإستقامة .
وقوله تعالى: «وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ» جملة استثنائية. بدأ بالنفي ثم بالإثبات وحذفت فيها المفعولات. وبالإتيان بالمفعولات نفسر الآية كالتالي: وَمَا تَشَاؤُونَ أي وَلا تكوَّنون شَيْئاً إِلَّا أن يَشَاءه اللَّهُ أي كونه الله رَبُّ الْعَالَمِينَ.
والأمر بـ "كن" من الله تعالى يكون بعد التقدير و تهييئة الشروط. قال الله تعالى: «قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا» (الطلاق، 65 / 3).
وما لم يُقَدر لا يقال عنه شيء. قال الله تعالى: «أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا» (مريم، 19 / 67 ).
وقال أيضا: «هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا » (الإنسان، 71 / 1).
المذكور هو ما قد سبق ذكره. والذكر يقالاعتباراباستحضارالمعرفة.[1] أي أنه معارف موجودة في الذاكرة يمكن استحضارها عند الحاجة. فمعنى قوله تعالى: « لم يكن شيئا مذكورا» أي لم تتكون ولم تُقَدَّر المعارف المتعلقة بذاك الإنسان. وأولى هذه المعارف هي قدر هذا الإنسان.
ونعرف من الآيات أن لـ "الشيء" مراتب سبعة
1. الإرادة
وكلمة "الإرادة" هنا تعني: إتخاذ القرار في تكوين الشيء. وهي مشتقة من الرَّوْد. و الرود: مصدر فعل الرائد، والرائد: الذي يرسل في التماس النُّجعة وطلب الكلإ، والجمع رواد. وأصل الرائد الذي يتقدم القوم يبصر لهم الكلأ ومساقط الغيث. ويقال: بعثنا رائدا يرود لنا الكلأ والمنزل، أي ينظر ويطلب ويختار أفضله.[2]
والإرادة من باب إفعال وأصله الواو، كقولك راوده أي أراده على أن يفعل كذا، إلا أن الواو سكنت فنقلت حركتها إلى ما قبلها فانقلبت في الماضي ألفا وفي المستقبل ياء، وسقطت في المصدر لمجاورتها الألف الساكنة وعوض منها الهاء في آخره؛[3] بمعنى إرسال الرائد.
يوجد في الإنسان ملكة يتكون بها القرار والطلب، والإرادة هي تفعيل وتنشيط هذه الملكة. فبدايتها طلب ونهايتها إتخاذ القرار أو عدم إتخاذه. ولذا فالإرادة على نوعان: أحدهما طلب والآخر إتخاذ القرار.
وقد وردت الإرادة بمعنى الطلب في الآية التالية: قال الله تعالى: «وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا » (النساء، 4 / 27).
إنّ الإرادة منه سبحانه لا تقتضي وجود المراد لا محالة, فالله تعالى يريد من الجميع التوبة، ولكن كثيرا من الناس لا يتوبون. كما أن الذين يريدون إضلال الناس وصدهم عن سبيل الله لا يتحقق مرادهم. أما إرادة الله تعالى بمعنى القضاء فإنها تقتضي وجود المراد. قال الله تعالى: « إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ» (هود، 11 / 107).
وقد جاءت الإرادة في الآية السابقة بمعنى القضاء واتخاذ القرار. ويدل على ذلك قوله تعالى: «وَاِذَا قَضٰىۤ اَمْرًا فَاِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونَ» (البقرة، 2 / 117).
وتكون الإرادة من الإنسان بمعنى اتخاذ القرار كذلك. كما قال الله تعالى: «وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ» (البقرة، 2 / 233).
ولا تتحقق إرادة الإنسان إلا بمشيئة الله تعالى وتهيئته الشروط اللازمة. فالمرأة _مثلا_ إذا أرادت أن ترضع طفلها لا يتأتى لها ذلك إلا أن يشاء الله تعالى لها إرضاعه بتهيئة الظروف اللازمة لذلك. وتأكيدا لهذا المعنى قال الله تعالى: «فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» (آل عمران، 3 / 159).
2. تكوين قدر الشيء
القدر هو القياس. وقد وضع الله تعالى للخلق قياسا كما أخبر بقوله: «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ» (القمر، 54 / 49). « وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا» (الأحزاب، 33 / 38). « إن الله على كل شيء قدير» (البقرة،2 / 20).
هو الفاعل لما يشاء على قدر ما تقتضي الحكمة، لا زائدا عليه ولا ناقصا عنه.[4]
ويختلف قدر الإنسان عن قدر الحيوانات والأشياء. وقد قال الله تعالى للأرض والسماء: «.. ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (فصلت، 41 / 11). فلا يمكن لهما الخروج عن أمر الله تعالى مهما كان. وقال تعالى فيما يتعلق بقدر الإنسان: «إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا» (الإنسان، 76 / 3).
أي أن الإنسان يطيع الله بإرادته الحرة، وإذا أراد العصيان فيمكنه ذلك. فلا إكراه في الدين. كما قال الله تعالى: «لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» (البقرة، 2 / 256).
وكلمات "شاكرا وكفورا" المذكورتين في الآية السابقة تحملان معاني مهمة جدا. الشاكر من الشكر. والشكر: تصور النعمة وإظهارها. والشكر ثلاثة أضرب: شكر بالقلب، وهو تصور النعمة. وشكر باللسان، وهو الثناء على المنعم. وشكر بسائر الجوارح، وهو مكافأة النعمة بقدر استحقاقها.[5] فالإنسان مدين إلى الله. قال الله تعالى: «وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا » (إبراهيم، 14 / 34).
والإنسان مدِينٌ إلى الله بالشكر على هذه النعم. والدَّين يعني في اللغة العربية القرض. وهو ما يجعل الإنسان مطيعا للدائن. وكذلك الدِين هو نظام يوجب على الإنسان أن يطيع الله لأنه الذي وهبه الحياة. فالدِين والدَّين من أصل واحد. وكثير من الناس لا يؤدي دين الله مع أنه يزيد يوما بعد يوم. أي يترك الطاعة على الدوام فتحيق به الخطايا والمعاصي.
والكفور فاعل من الكفر وكذلك الكافر. وكفر النعمة وكفرانها: سترها بترك أداء شكرها.[6]وهو نقيض الشكر. وأعظم الكفر: جحود الوحدانية أو الشريعة أو النبوة. فكثير من الناس يعبد الله حسب هواه، ولا يعبده وفق أوامره. يكفر النعمة، ويسعى في الأرض ليفسد فيها. وهذا مما أعطاه الله من الإرادة والحرية. وسيحاسبه الله تعالى يوم القيامة على عمله. قال الله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» (فصلت، 41 / 40).
والفاعل لفعل "شاء" وما اشتق منه يكون الله أو الإنسان. ولا فاعل له غيرهما من المخلوقات. والله تعالى يكون قدر كل شيء وخلقه. ولكن قدرة الإنسان محدودة، فيكون ما يفعله جميلا إذا وافق سنن الله تعالى وإلا يكون قبيحا. وفي كلا الحالين لا يتحقق فعله إلا بإذن الله تعالى. فلدى الإنسان قدرة وقابلية يمكن أن يقيم بها حضارة أو يهدم حضارة أخرى. كما أن لديه قدرة لإقامة السلم أو إظهار الحرب، وكما أنه يقوم بإفساد البيئة أو اصلاحها؛ فهو صاحب الإرادة الحرة. قال الله تعالى: «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَـكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ» (البقرة، 2 / 253). وقال أيضا:
«وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» (المائدة، 5 / 48)
وقال تعالى: «وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ» (الأنعام، 6 / 35).
«وَلَوْشَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ» (الأنعام، 6 / 107).
«وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ» (يونس، 10 / 99).
«وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ» (الشورى، 42 / 8).
«سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ. قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ» (الأنعام، 6 / 148-149).
ولفظ "لو" في قوله تعالى: « لَوْ شَاء اللّهُ» أداة شرط وهي تفيد أن تحقق الثاني يتوقف على تحقق الأول، هذا إذا كان الشرط والجزاء في جملة إيجابية، ولكن إذا كانا(الشرط والجزاء) في جملة سلبية كما في " لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا" فـ "لو" هنا تفيد أن الثاني أي الجزاء لم يتحقق لعدم تحقق الأول أي الشرط. وعلى هذا فإن قول المشركين: وقد أشركنا نحن وآباؤنا بالله، وحرمنا بعض الأشياء لأن الله أمرنا بذلك هو كذب وافتراء على الله سبحانه، وقد أخبرنا الله تعالى أنهم كاذبون في قولهم هذا لأن الله لم يأمر بها، وقابلهم الله تعالى بقوله: « فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ».
وكلمة "شاء" بمعنى فعلَ شيئاً كما بينا سابقا. فالشيء هنا يعني الهداية. إذا أراد الله تكوين شيء يقول له "كن" فيكون. وعلى هذا فإن المشركين أرادوا أن يقولوا "لو أراد الله تعالى هدايتنا لقال "كن" – أي فعل فينا الهداية- فاهتدينا. ولا شك أن هذا مذهب الجبرية،كما أنّ هذا يتناقض مع كون الدنيا دار ابتلاء. ولم يكن الله ليجبر الناس على الإيمان، وإلا لأجبر جميع الناس فكانوا أمة مسلمة. ولكنّ الله جلّ شأنه أمر الناس بالإيمان وأعطى لهم حرية الإختيار فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وذلك تحقيقا لمعنى الإبتلاء.
لقد قصد المشركون أن يقولوا: "فما ذنبنا نحن والله تعالى قد خلقنا على ما نحن عليه".يقولون هذا وهم يعرفون تماما أن الله تعالى لا يجبر الإنسان، ومصدر هذه المعرفة هو فطرتهم وما يكتسبونه من المعلومات الأساسية من خلال البيئة المحيطة بهم، ولاشك أن كلّ إنسان يعرف أنّه لا يُجبر على صناعة العنب خمرا أو شربه كذلك فإنه لا يجبر على أن يهتدي أو يضل. وقد بينت الآية السابقة كذب وبطلان النظرية الجبرية إذ لا يمكن إثباتها بأي طريق.
تبدأ العبودية في عقل الإنسان. فهو يتصور العبودية لله في عقله أولا، ثم يقوم بما تتطلبه العبودية وذلك بعد أن يقرر أن يكون عبدا لله، فعندئذ يأتي الأمر من الله تعالى بـ "كن" فيبدأ في العبادة.
ومن الناس من يختار الحياة الدنيا ومتاعها ومعصية الله فيها على طاعة الله وما يقرِّبهم إلى رضاه من الأعمال النافعة في الآخرة، فيوجه الله تعالى لهؤلاء الإنذارات. قال الله تعالى: «وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (التوبة، 9 / 115).
فيعرف هؤلاء أن ما فعلوه كان خطأً، ولكن فريقا منهم يصر على الخطأ ، ويختارون الحياة الدنيا، ويفسدون في الأرض ويقطعون السبيل فيأمر الله بإيجاد الضلالة فيهم، فيكونوا من الضالين. ومن هؤلاء فريق لا يرضى أن يقال عليهم ضلالا؛ لذا فإنهم يتظاهرون بالتديّن لدفع تهمة الضلال عن أنفسهم، لكنهم في الوقت نفسه لا يألون جهدا لتكييف الدين على هواهم. قال الله تعالى: «… وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ . الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَـئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ» (إبراهيم، 14 / 2-3).
كما أنه أمر يمنع تحول الإرادة إلى القرار النهائي؛ أي إلى الإيمان الحقيقي. ومن الناس من يجعل الحياة كلها عبادة لله، وهؤلاء هم العقلاء الذين عرفوا الله سبحانه من خلال آياته فقدروه سبحانه حقَّ قدره. ومن الناس من يعبد الله حين يقعون في الضيق وتصيبهم المصائب، حتى إذا رفع الله عنهم المصائب والضيق نسَوا عبادة الله تعالى، فهؤلاء لم يعظموا الله تعالى كما يليق به ولم يعرفوه حق المعرفة: «ومَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ» (الأنعام، 6 / 91).
كلما أراد الإنسان فعل شيء يجد في نفسه إلهاما من الله تعالى أن هذا الشيء حسن أم القبيح.
3. الإلهام
الإلهام هو أن يوقع الله في قلب العبد شيئا.[7] قال الله تعالى: «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا» (الشمس، 7-10).
إذا أراد الإنسان فعلَ شيءٍ فإنّ الله تعالى يلهمه كون هذا الشيء حسنا أو قبيحا، وبعد ذلك فهو يقوم بفعله أو يترك، فإذا كان القرار منه صحيحا فإنّه يجد في نفسه انشراحا، وإلا سيشعر بضيق في نفسه، ويحس بالندم زلكن يتنازل عن فعله حتى يصل إلى أزمة نفسية. قال الله تعالى: «فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذٰلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ» (الأنعان، 6 / 125).
وهذا قوله تعالى فيمن سيهديه: «وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ» (الرعد، 13 / 27).
والله يهدي من أناب إليه: «وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ» (آل عمران، 3 / 101).
كما قال الله تعالى فيمن لا يهديه: «وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ».[8] «وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ».[9]«وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ».[10] «إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِب كَفَّار ٌ» (الزمر، 39 / 3). «إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ» (المؤمن، 40 / 28). «إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ لاَ يَهْدِيهِم اللّهُ» (النحل، 16 / 104).
عن وابصة بن معد رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: جئت تسأل عن البر؟ قلت: نعم، قال:استفت قلبك (يعني لا تسأل أحداً واسأل قلبك واطلب منه الفتوى) البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، فمتى وجدت نفسك مطمئنة وقلبك مطمئن إلى شيء فهذا هو البر فافعله. والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، فإذا رأيت هذا الشيء حاك في نفسك وتردد في صدرك فهو إثم، قال:وإن أفتاك الناس وأفتوك.[11]
عن أبي الجوزاء قال: سألت الحسن بن علي ما يذكر من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: سمعته يقول: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، فإن الخير طمأنينة وإن الشر ريبة".[12]
وقال الله تعالى فيمن سلوكه سيئة: «لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ » (التوبة، 9 / 110).
4. إذن الله
كلمة الإذن في القرآن الكريم تفيد الرخصة والموافقة والإعلام. وهو يطلق على جارحة السمع، ويستعمل ذلك في العلم الذي يتوصل إليه بالسماع، والأذن والأذان لما يسمع، ويعبر بذلك عن العلم، إذ هو مبدأ كثير من العلم فينا، والمؤذن: كل من يعلم بشيء نداءً. والإذن في الشيء: إعلام بإجازته والرخصة فيه.[13] ولا يكون شيء إلا بإذن الله. قال الله تعالى: «مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (التغبن، 64 / 11).
إذا أراد الإنسان أن يفعل شيئا عزم في نفسه، أي قرر في نفسه أن يفعل ذلك وهو ما يسمى القرار النفسي، ولا يعرف هذا القرار قبل التلفظ أحدٌ سواء كان من الإنس أو الجن أو الملائكة المقربين إلا الله تعالى: «إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ» (ق، 50 / 17-18). « وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ. كِرَامًا كَاتِبِينَ . يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ» (الانفطار،82 / 10-12).
ولا يكون المؤمن مؤمنا إلا بإذن الله. لأن كل إنسان مؤمن على ما يعتقد هو بنفسه، والمسلم يؤمن بالله، ولكن المهم أن يكون إيمانه مقبولا عنده. قال الله تعالى: «وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ» (يونس، 10 / 100).
5. الكتابة
إذا أراد الله تعالى إنفاذ أمْر فإنه سبحانه يأمرُ الكرام الكاتبين أن يدونوه أولا ، ولا يُنْفذُ الله أمره إلا بعد الكتابة. قال الله تعالى: «مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» (الحديد، 57 / 22).
ولا يكون إلا ما هو مكتوب، قال الله تعالى: «قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» التبو، 9 / 51).
وقد أمرنا أن ندعو بهذا الدعاء ليكون كتابنا حسنا؛ «وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَـذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَـا إِلَيْكَ » (الأعراف، 7 / 156). ويبدأ تكوين الشيء بعد الكتابة.
6. تكوين الشيء
تكوين الله للأشياء أي خلقه إياها يختلف عن تكوين الإنسان لها. إذا أراد الله تكوين شيء قال له "كن" فيكون. لأنه قادر أن يفعل ما يشاء. قال الله تعالى: «يَخْلُقُ مَا يَشَاء (أي مَا يكون هو قدره) وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ» (الروم، 30 / 54).
والله يخلق ما يشاء: « قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذٰلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء» (آل عمران، 3 / 40).
أما تكوين الإنسان فلا يتم ولا يتحقق إلا بإذن الله لأن مشيئته متعلقة بمشيئة الله تعالى: «وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَدًا إِلَّا أَن يَشَاء» (الكهف، 18 / 23 – 24).
ولكل تكوين شروطمعينة. بحيث من يريد غرس العنب، يحتاج إلى أرض وماء ومرواد شجرة العنب والأسمدة و الأدوات الزراعية والبيئة المناسبة والشروط والمعلومات والمهارة. ثم إذا سعى حق السعي وبذل الجهود اللازمة نجح في غرس العنب وجنى ثمارها. وبعد ذلك يجوز له أن ينسب الخلق أي صنع العنب إلى نفسه أو إلى الله تعالى. لأن الله هو الخالق حيث كون الشروط اللازمة وهو كذلك خالق من حيث إنه باشر الأسباب اللازمة. لو ما هيأ الله تعالى تلك الشروط لما استطاع أن يغرس العنب، وكذلك القول فيمن من يقوم بصناعة الخمر. لقد أحلّ الله أكل العنب وحرّم شرب الخمر، والله تعالى لا يجبر الإنسان على أكل العنب أو شرب الخمر؛ فقد وهب الله تعالى الإنسان حرية الإرادة والقدرة على الإختيار، فهو يقوم بمباشرة الأسباب، وبناءً على اختياره بمحض إرادته يجازيه الله تعالى. كما قال سبحانه: «وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى» (النجم، 53 / 39).
أي أن الإنسان يملك حسب سعيه، ولا يستحق الثناء من تملك عن طريق الميراث أو الهبة لأنه لم يبذل فيه جهدا.
7. تكوينقدرالشيء
والقدريدلُّعلىمَبْلَغالشَّيءوكُنههونهايته. والتقديرإحداثهأوإعطاء الشَّيءالقدرة.[14] وكلمة "التقدير" في الآيات يدلّ على ما يَعقُبُ الخلق بمعنى إعطاء الشيء المخلوق القدر والقدرة، لأن الخلق يكون على تقدير. قال الله تعالى: «الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى» (الأعلى، 87 / 1- 3).
وكلمة "سوى" في الآية الأولى تعنى التسوية وإتمام الخلق. وقد خلق الله تعالى كل شيء بقدر وميزة خاصة بنوعه، فلا تثمر شجرة الكمثرى تفاحة، حتى أن شجرة الكمثرى لا تثمر إلا كمثرى من نفس الجنس.
وكلمة "قدَّر" في الآية الثانية – وهي كلمة تعني أوصاف الأشياء فيما بعد الخلق – تعني إعطاء القدر والقدرة. أي أن الله تعالى قد أودع في كل ما خلق قدرة.
وكذلك كلمة "فهدى" في الآية الثانية، تعني بيان الطريق له بعد الخلق، فجميع الموجودات تسلك الطريق الذي بينه الله تعالى، وبهذا تصبح الموجودات منقادة لأمر الله تعالى. قال الله تعالى: «ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ» (فصلت، 41 / 11).
وقول الموجودات " أَتَيْنَا طَائِعِينَ" يحمل معنى مهما. وهو أن للموجودات شعورا ومعرفة للحقائق. ويعزز هذا المعنى قوله تعالى: «تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا » (الإسراء، 17 / 44).
الحمد؛ هو مدح شخص ببذل ماله وسخائه.[15] والحمد لله هو الثناء عليه بما أحسن كل شيء خلقه. والتسبيح كذلك، وهو ما يدلّ على أنّ كلّ الموجودات ذوات شعور ومعرفة.
والقدرة التي تميز الإنسان عن غيره من المخلوقات تُعطَى له في رحم أمّه بعد أن يتمّ خلقه. قال الله تعالى: «مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ» ( عبس، 80 / 19).
وبعد نفخ الروح فيه يأخذ شكلا آخر. وقد بيّن الله تعالى هذه المرحلة بقوله: «ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ » (السجدة، 32 / 9).
وتحدث في هذه المرحلة تغيرات جذرية، فقد جعل الله له سمعا، وهو أداة كسب المعلومات بأن يُحَلِلَ بسمعه ما يسمع من الأصوات. ومنحه بصرا يستطيع أن يرى به خلفية الأحداث، وقلبا؛ وهو مركز المحبة، والكراهة، والإيمان، والكفر، وهو مكمن الإرادة حيث يتخذ الإنسان القرارات المتعلقة بجميع شؤون حياته.
ب. الفطرة
الفطرة؛ تعني مبادئ وقوانين الخلقة والتغيير والتطور، وهي التي تُكَوِّن البِنيةَ الأساسية للكائنات. وتظهر بالبحث فيما جعله الله تعالى في الأشياء من المقادير والعلاقات. أي أن السماوات والأرض والبشر والحيوان والنبات وغيرها من الأشياء تتكون وتعمل وفق تلك القوانين والمبادئ. وتطلق عليها آيات كونية. وتوجد بينها وبين الآيات القرآنية علاقات وثيقة. قال الله تعالى: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ» (الروم، 30 / 30).
وبناءً على هذه الآية فإن الدين هو الفطرة. لذا كثيرا ما يركز القرآن الكريم على هذه الفكرة ويأتي بالأمثال كلها منها أي من الطبيعة.
وكل شيء في الطبيعة يشتمل على نظام دقيق في حد ذاته وفيما يتعلق بأشياء أخرى من الموجودات كذلك، وهذا ما يسمى بالآيات الكونية. ويعرف ذلك كل من له عقل سليم، حسب قدراته المعرفية. وكذلك الآيات القرآنية تشمل على نظام دقيق وعلاقة وثيقة في حد ذاتها وبأخرى من الآيات. وبينهما (أي النظام في الآيات الكونية والنظام في الآيات القرآنية) توافق تام، لذا يأتي القرآن الكريم بجميع الأمثلة من الفطرة.
نورد موضوع الطلاق كمثال لما ذكرنا، مبينا النظم التي شمل عليها. وقد أطلق عليه في القرآن الكريم اسم "الشيء". قال الله تعالى:
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا. فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (الطلاق، 65 / 1-3).
وقد بيّن الله تعالى بقوله: " قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا" أنّ الطلاق من الأشياء المقدرة.
والقدر هنا هو الأمور التي يجب الإلتزام بها لمن أراد الطلاق. وخلاصة هذه الأمور كالآتي:
1. أن يكون الطلاق للعدة؛ أي في الطهر الذي لم يحدث فيه مسٌّ (مباشرة جنسية) وأن لا يكون في مدة الحيض، ففي هذه الفترة تكون الزوجة متوترة بسبب حيضها، وكذلك الزوج لعدم المباشرة الجنسية فيسهل له تطليقها. كما أن الزوج الذي باشر زوجته في الطهر يسهل له التطليق لأنه قد أشبع غريزته الجنسية. لذا كان الطلاق ممنوعا في هاتين الحالتين. وهو ما تطلبه الفطرة السليمة.
2. وعلى الزوج أن يحصي العدة. وكون الزوج يعدُّ الأيام التي تمضيها المطلقة في بيت الزوج فإنّ ذلك يعني الإهتمام بها.
3. وأن لا تُخرَج المطلقة من البيت؛ لإمكانية حصول التصالح بينهما خلال فترة العدة والتي يعيشان فيها معا. وعدم حصول التصالح في تلك الفترة_ رغم إمكانية ذلك_ يعني أن المشاكل بينهما كبيرة، عندها يحصل التفريق بينهما على بينة.
4. كما أن عليها أن لا تخرج؛ ففي حالة تركها البيت تزداد المشكلة تعقيدا لإحتمال تعويمها، عدا ما يحصل من الجفاء بسبب البعد مما يُصَعِّبُ التصالح بينهما.
5. وبعد نهاية الأجل فعلى الزوج إما أن يمسكها بالمعروف أو يتركها. لأن الحياة الزوجية لا تقام على الإكراه وإلا تضررت الأسرة. ومن الممكن إعادة الزواج من جديد بعد ذهاب التوتر من كليهما.
6. وعلى الزوج الإستشهاد بشاهدين في الطلاق والرجعة والتفريق. فيقوم من علم بالخلاف من المسلمين بالإصلاح بينهما بتعيين حكم من أهله وحكم من أهلها كما ورد ذلك في الآية 35 من سورة النساء. ورجوع الزوج في العدة، إذا أراد الاصلاح؛[16] ويعرف ذلك بشاهدين أيضا.
وكذلك يستشهد عند التفريق، حتى يعرف جماعة المسلمين أنّ حياتهما الزوجية قد انتهت.
والشروط المذكورة من الأول إلى السادس مهمة جدا، فإذا لم تتحقق لم يقع الطلاق.
هذا هو الطلاق الأول. وللزوج أن يطلق على هذه الشروط مرة ثانية. وفي الثالث لا شروط هنالك. وهذا ما تقتضيه الفطرة.
الخاتمة
كما رأينا فيما سبق أن "الشيء" و"القدر" و"الإرادة" كلمات بينها علاقات وثيقة. وانقطاع العلاقات بينها على مر الزمن، أدى إلى انقطاع العلاقة بين الدين والعلم والفطرة. وبالتالي كان مانعا من فهم القرآن الكريم فهما صحيحا.
ونحن نرى أن المشكلة الكبرى اليوم هو الفصل بين الدين والعلم، ومصدر العلم هو الفطرة. وإنّ إقامة العلاقة بين الدين والفطرة على شكل صحيح يمكِّنُ الأمة المسلمة من تقديم خدمات كبيرة للجماعة البشرية.
وأتمنى أن تكون هذه الدراسة مفيدة إن شاء الله
[1] المفردات للراغب الاصفهاني، مادة: ذكر.
[2] لسان العرب مادة: رود.
[3] الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية ، مادة: رود.
[4] المفردات، مادة: قدر.
[5] المفردات، مادة: شكر.
[6] المفردات، مادة: كفر.
[7] تفسير الرازي ، مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير، ج. 8 / ص. 583.
[8] أنظر، البقرة، 2 / 264؛ المائدة، 5 / 67؛ التوبة، 9 / 37؛ النحل، 16 / 107.
[9] أنظر، المائدة، 5 / 67؛ التوبة، 9 / 37؛ الصف، 61 / 5؛ المنفقون، 63 / 6.
[10] أنظر، البقرة، 2 / 258؛ آل عمران، 3 / 86؛ المائدة، 5 / 51؛ الأنعام، 6 / 144؛ التوبة، 9 / 19، 109؛ القصص، 28 / 50؛ الأحقاف، 46 / 10؛ الصف، 61 / 7؛ الجمعة، 62 / 5.
[11] سنن الدارمي، البيوع 2.
[12] الترمذي، القيامة، 60.
[13] معجم المقاييس اللغة.
[14] المفردات، مادة: قدر.
[15] المفردات، مادة: حمد. بتصرف قليل.
[16] أنظر، البقرة، 2 / 228.
أضف تعليقا