إن وقع الظلم على النفس شديد، ما يجعل المظلوم دائم التفكير في ظالمه، زاهداً في إنجاز أي شيء سوى الانتصاف لنفسه إن استطاع، مشلول التفكير والإرادة إلا عن التقلب على جمر الغيظ وحب الانتقام. ولأمر ما عنون ابن خلدون فصلاً مهماً من مقدمته بالقول: (الظلم مؤذِن بخراب العمران) ولأمر ما اختار كلمة (مؤذن) حتى يجعلك لا تغتر إذا رأيت قصراً منيفاً يتربع فيه ظالم بين الأضواء والرياش، أو سلطة يتحكم بها متجبر عاتٍ يأمر فيُطاع، فها هو ذا الظلم ينعق في جنباتها، مؤذناً بدك بنيانها من القواعد[5].
التصرف تجاه الظالمين
عدم تقديم العون للظالمين أقل ما يمكن للمسلم أن يفعله، وقد أمرنا تعالى بالتعاون على البر والتقوى، وإعانتهم تعاون على خلاف ذلك. ويحذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا بقوله (وَمَنْ أَعَانَ عَلَى خُصُومَةٍ بِظُلْمٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)[1] وفي رواية أخرى (مَنْ أَعَانَ عَلَى خُصُومَةٍ بِظُلْمٍ أَوْ يُعِينُ عَلَى ظُلْمٍ لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ)[2].
المؤمن الحق يعلم أن الله معه ولن يضيعه، وما يمر به من ظلم واضطهاد إنّما هو ابتلاء يُقابل بالصبر والإحتساب، وقد أثنى الله تعالى على أصحاب النبي لموقفهم من اجتماع العدو لحربهم بأعداد كبيرة. قال الله تعالى {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (آل عمران، 173) إذا فأولى الخطوات في مواجهة الظالمين هي الصبر والاحتساب والاستعانة بالله سبحانه.
وإذا تمكن الإنسان من دفع الظلم عن نفسه فليفعل. قال تعالى {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (الشورى، 42) وقال أيضا {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج، 39_40) ويَقُولُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ)[3]. ويحذر الله تعالى من ترك الظالمين وشأنّهم لأنّ العقوبة إذا نزلت شملت الجميع بقوله تعالى {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (الأنفال، 25).
وقد حرم الله سبحانه على الإنسان أن يدعو على الآخرين بسوء، إلا في حال وقوع الظلم عليه. قال تعالى {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} (النساء، 148) قيل في تفسير الآية: لا يحب الله تعالى أن يجْهر أحدُنا بالدعاء على أحد، إلا من ظلم فيدعو على ظالمه، فإن الله جل ثناؤه لا يكره له ذلك، لأنه قد رخص له في ذلك[4] . وهذا ما فعله موسى عليه السلام {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} (آل عمران، 88). ولما اشتد أذى القوم وإنكارهم لدعوة نوح عليه السلام دعا ربه قائلاً {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} (نوح، 26_ 27)
أضف تعليقا