والابتلاء هوَ الامتحان، قالَ تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} {العنكبوت،2} والغاية من الابتلاء تمييز المؤمن من المنافق. قالَ تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (الحج، 11}
وقد يأتي الابتلاء على هيئة مصيبة بغرض إظهار الإنسان على حقيقته أمام نفسه أولا وأمام المؤمنين، فيعلم أن ما ادعاه من الإيمان ليس في مكانه وعليه إصلاح نفسه قبل فوات الأوان، وكذلك حتى لا يبقى المؤمنون منخدعين بأدعياء الإيمان فيظهروا على حقيقة أنفسهم من فلتات ألسنتهم وتبرمهم لهذا المصاب وشكهم في حكمة الله من الابتلاء. وهذا قطعا ليس من صفات المؤمنين. قالَ تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} (آل عمران،179)
ويَوْمَ أُحُدٍ قال من لم يدخل الإيمان قلبه: لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الْأَمْرِ شيء ما قُتلنا ههنا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَهُنَا} (آل عمران: 154) ويَوْمَ الْأَحْزَابِ قالوا: كَانَ مُحَمَّدٌ يَعِدُنا أَنْ نأكلَ كنوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وأحدُنا لَا يَأْمَنُ أَنْ يذهَب إلَى الْغَائِطِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} (الأحزاب: 12)[1].
في وصف حالة المؤمنين في تلك الموقعة. قال تعالى: { هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} (الأحزاب، 11) ففي مثل تلك الظروف يتميز المؤمن من المنافق، وقد ذكرت الآيات السابقة موقف المنافقين والذين في قلوبهم مرض، بينما أثنت على المؤمنين لما اجتازوا الامتحان بنجاح {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا. وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} (الأحزاب،21_ 22) وقبيل توقيع صلح الحديبية دعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابة للبيعة على الموت في سبيل الله دفاعا عن بيضة الإسلام، فهبوا جميعا، وقد اجتازوا الامتحان، واستحقوا رضوان الله عليهم موثقا بقرآن يتلى إلى يوم القيامة {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (الفتح، 18_19)
وقد يبتلي الله الناس بالبلايا والمصائب والنعم ليتبين شكر المحسن وصبره وكفر المتسخط وجحوده. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (ومما يظهر الأمر ما ابتلى الله به عباده في الدنيا من السراء والضراء وقال سبحانه: {فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} (الفجر:15 – 16). يقول الله سبحانه ليس الأمر كذلك، ليس إذا ما ابتلاه فأكرمه ونعمه يكون ذلك إكرامًا مطلقًا وليس إذا ما قدر عليه رزقه يكون ذلك إهانة؛ بل هو ابتلاء في الموضعين، وهو الاختبار والامتحان، فإن شكر الله على الرخاء وصبر على الشدة كان كل واحد من الحالين خيرًا له كما قال النبي: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ»[2]
أضف تعليقا