السوق الحرة
لا يتم الوصول إلى النجاح الاقتصادي إلا بسلوك الطرق الصحيحة، وأبرزها أن يتم تداول المال والخدمات في بيئة حرة، يقول الله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا. وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (النساء، 4/ 29-30)
التجارة يمكن أن تعرف بأنها بيع المال والخدمات، والعقود والاتفاقيات المتعلقة بهما إن لم تستند إلى التراضي فإن الاقتصاد سينهار، ولذلك يجب على الدولة أن ترفع الموانع والعوائق التي هي أمام حرية دوران المال والخدمات، كما يجب أن توفر الإمكانية لتكون الأسعار في بيئة حرة
في أحد الأزمنة كانت الأسعار قد ارتفعت في المدينة المنورة، وقد طلب من نبينا أن يضع حدا أعلى للأسعار، وقد أجاب نبينا على هذا المطلب بما يلي: “إن الله هُوَ المُسَعِّرُ، القابِضُ الباسِطُ الرازق، وإني لأرجو أن ألقى اللهَ عزّ وجلّ وليس أحد منكم يُطالبُني بمظلِمَةِ في دمٍ ولا مالٍ” [1]
وقول النبي هو مقتضى الآية السابقة، والأمر الوارد بعدم قتل النفس يشير إلى أن التدخل في الأسواق نوع من الانتحار، لأنه في حالة تدخل الدولة في السوق فستكون البضائع الداخلة إليه قليلة، وسيعاني السوق من شح المعروض وستتشكل الأسواق السوداء. إذا ارتفعت الأسعار في الأسواق الحرة فهذا يشير إلى أن الأسعار ستنخفض، لأن كل الذين يسمعون بارتفاع الأسعار من التجار سيجلبون بضائعهم إلى السوق الذي ما إن يمتلئ حتى تبدأ الأسعار بالانخفاض.
منع نبينا صلى الله عليه وسلم شراء البضائع قبل وصولها إلى السوق لأنه يمنع تحقق السوق الحرة، حيث روي عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أنه قَالَ: “نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَلَقِّي البيوع”[2]
عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: “أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ تَلَقِّي السِّلَعِ حتى تهبط الأسواق”[3]
«لَا تَلَقَّوْا الْجَلَبَ، فَمَنْ تَلَقَّاهُ فَاشْتَرَى مِنْهُ، فَإِذَا أَتَى سَيِّدُهُ السُّوقَ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ»[4]
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – (أَنَّ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – نَهَى عَنْ التَّلَقِّي لِلرُّكْبَانِ)[5]تلقي الركبان هو أن يستقبل التجار المحليون جالبي البضائع قبل وصولهم إلى السوق ومحاولة خداعهم لشراء ما جلبوه من البضائع بثمن أقل من ثمن المثل
والاحتكار محرم كذلك، وهو تخزين الأغذية وإخفاؤها من الأسواق انتظارا لارتفاع أثمانها[6]، ويرى أبو يوسف من المذهب الحنفي أن الاحتكار هو الامتناع عن بيع الأموال المعدة للبيع بالرغم من حاجة الناس الماسة إليها، وهكذا يؤمر المحتكر أن يبيع ما زاد عن حاجته وعائلته من الطعام، وإن أصر على الاحتكار ترفع قضيته إلى المحكمة المختصة، والحاكم ينصحه ويهدده، وإذا مثل أمام الحاكم مرة أخرى بذات القضية فالحاكم يحبسه لئلا يعود للاحتكار، يتسطيع القاضي أن يعاقبه عقوبة خفيفية، لكن لا يجوز له أن يبيع بضاعته رغما عنه أو أن يحدد لها سعرا.[7]
يقول نبينا في هذا الموضوع: «الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون»[8]
«مَنِ احْتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ»[9]
لا يجوز بيع المعدوم أيضا، والناس بهذا الطريق يمكن أن يُلجؤوا للخسارة، فاليوم مثلا تباع البضائع المفترضة (المعدومة) في البورصات، وتتحقق الأرباح للبعض بغير وجه حق. جاء حكيم بن حزام إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له:
عن حكيم بن حزام، قال: قلت: يا رسول الله، يأتيني الرجل يسألني البيع، ليس عندي ما أبيعه، ثم أبيعه من السوق فقال: ” لا تبع ما ليس عندك “[10]
وقد منع بيع المواد الغذائية دون تسليمها، يقول نبينا: عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه»[11]
وقد منع نبينا من التظاهر بالشراء بنية تشويق الآخرين لشراء السلعة فاتحا الطريق نحو رفع سعرها، وهو المعروف بالنجش[12] والتعبيرات المبالغ بها في الدعايات التجارية يمكن أن تنضوي تحت النهي السابق، كل ما سبق يشكل مانعا من التراضي الذي أمرت به الآية، وكل ما يؤثر سلبا على البيئة الاقتصادية الحرة يعد من الطرق الباطلة.
ولا يلزم من هذا عدم جواز عقود الطلب (الطلبيات)، ويمكن أن تتم في صورتين، الأولى منها: السلم؛ الذي يمكن تعريفه بأنه عقد البيع الذي يكون فيه الدفع مقدما على أن يتم تسليم البضاعة لاحقا، وهذا يمضى على عكس البيع بالدين، ويشترط أن يبين في العقد مقدار المسلم فيه (البضاعة) وخصائصه، ومكان التسليم وتاريخه، ومع العقد الذي تم وفقا لشروطه تعتبر البضاعة التي ستنتج في تاريخها قد بيعت بثمن معلوم مقبوض سلفا. يروى عن ابن عباس أن النبي قال: «مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ، فَفِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ»[13]
الصورة الثانية، الاستصناع، وهو عقد مع الصانع لصنع ما يرغب به المشتري، ويختلف عن عقد السلم بأنه لا يشترط تسليم الثمن مقدما، كما أن موعد التسليم لا يكون محددا بشكل قاطع، وشراء البضاعة التي ستسلم لاحقا يجعلها رخيصة، اذا كان قيمة بضاعة معينة مئة ليرة نقدا يكون ثمنها دينا إلى شهرين 110، أما إن تم الدفع مسبقا والتسليم بعد شهرين فإنه يمكن أن ينخفض السعر إلى 90 ليرة، المنتج أراح نفسه ببيع ما سينتجه منذ الآن، والمشتري أيضا انتهز الفرصة لشراء ما يحتاج من البضاعة بسعر أرخص[14]، ولعدم اشتراط أن يتم عقد الاستصناع مع الصانع مباشرة أمكن أن يدخل بينهما السماسرة.
للمزيد حول الموضوع ننصح بقراءة مقالة أ.د عبد العزيز بايندر (النِّظام الاقتصادي الموافق للفطرة) على الرابط التَّالي http://www.hablullah.com/?p=2926
[1] الترمذي، السنن، البيوع : 73
[2] رواه البخاري في البيوع: باب النهي للبائع أن يحفل الإبل والغنم والبقر”2149″، وباب النهي عن تلقي الركبان”2164″، ومسلم في البيوع: باب تحريم تلقى الجلبن والترمذي”1518″
[3] رواه البخاري في البيوع: باب النهي عن تلقي الركبان “2165” ، ومسلم في البيوع باب تحريم الجلب”2165″، وأبوداود في البيوع: باب التلقي”3436″
[4] كاساني، علاء الدين، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، بيروت، 1394/1974. ج. 5، س.232. للأحاديث المتعلّقة بهذا الموضوع انظر، كتاب أبو جعفر الطحاوي’شرح معاني الآثار’ مع تحقيق محمّد زهري النجّار، بيروت، 1407/1987، ج.4، س. 7 ودوامه.
[5] صحيح مسلم 4- بَابُ تَحْرِيمِ بَيْعِ الرَّجُلِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ12 – (1515)
[6] ابن منظور، جمال الدين محمّد بن مكرم ( 630-711 )، لسان العرب، مادّة ” حكر ” بيروت.
[7] بدائع الصنائع 5/129-232
[8] ابن ماجة، 14/ 2153
[9] مسلم، المساقاة، باب تحريم الاحتكار، 129 – (1605)
[10]رواه احمد، 15311 والترمذي (1232) ، وأبو داود (3503) والنسائي في “المجتبى” 7/289، وفي “الكبرى” (6206) ، والطبراني في “الكبير” (3099) ، والبيهقي في “السنن” 5/317 من طريق هشيم، بهذا الإسناد. وقال الترمذي: وهذا حديث حسن.
[11] رواه مالك في الموطأ رواية الأزهري (18) باب العينة وما أشبهها 2558 ومسلم في البيوع باب بطلان بيع المبيع قبل القبض رقم 1526 والبخاري، باب الكيل على البائع والمعطي، 2126 وابن ماجة، 2226
[12] انظر صحيح البخاري (2142) و (6963) ، وصحيح مسلم (1516) (13) ، وسنن ابن ماجه (2173) ، وسنن النسائي في “المجتبى” 7/258، والدارمي 2/255، وأبو يعلى (5796)
[13] رواه البخاري، بَابُ السَّلَمِ فِي وَزْنٍ مَعْلُومٍ 2240 ومسلم (1604) (128) ، وابن حبان (4925)
[14] عبد العزيز بايندر، التجارة والربا، س.149 ودوامه.إسطنبول 207.
أضف تعليقا